ليس من عملٍ آخر أهم من الصلاة يجب أنْ نُكرِّس له ذواتنا وإنْ لم نستطِع أنْ نُكَرِّس له أوقاتنا بالشكل الملائم. يمكننا أنْ نكون في حالة صلاة كيانيّة حينما نكون في خضوع للروح، ونكون حاضرين على الدوام له حينما يوجّهنا لأمرٍ ما. هذا أمرٌ عسير بكلّ تأكيد، ولكن علينا أنْ نَتَدَرّب على تلك الصلاة الكيانيّة، والتي نكون فيها في حالة حوار دائم في كلّ تفاصيل حياتنا مع الله. حتى في أكثر أوقات الحياة ازدحامًا يمكننا أنْ نرفع القلب طوال اليوم مُسَبِّحين عمله وحضوره وراجين نعمته وبقائه معنا طالبين عونه وآملين في استعلان مجده.
الصلاة مفتاح الرؤية بالنسبة لنا. حينما نُصَلِّي نرى ما لا يُرى. وفي الرؤية، بالروح، حياةٌ من موت. هناك غلالةٌ من العمَى ... قشوٌر ... تجعلنا لا نتبيّن الحقيقة ولا الطريق كما هو. في الصلاة تبدأ تلك القشور في الذوبان رويدًا رويدًا. يبدأ الإنسان يستشعر أنّ حياةً بدأت تَدُب في أوصاله، بكلّ ما تحمله الكلمة من معانٍ. يرى أنّ قلبه بدأ ينبض من جديد وأنّه أصبح قادرًا على الانصات إلى نبضات القلب التي تطفر فرحًا، وكأنّها تصرخ في إنسانه الداخلي: أخيرًا .. ”لقد وجدنا يسوع“.
إنّ تلك أولى وأهم أسباب الصلاة بالنسبة لنا؛ أنْ نَرى بالروح. وحينما تبدأ عيوننا الروحيّة تألف النور من بعد غياب، سنرى إنسانيتنا المفقودة تُستعاد لنا ولله مرّة أخرى. سنعاين قلوبنا الشاحبة المحتضرة وهي تَتَحرَّر من القيود الوجوديّة التي أفقدتها نبضات الحيّاة الحقّة. لذا يجب أنْ تبدأ الصلاة شخصيّة .. تبدأ حوارًا خاصًّا صادقًا مُخْلِصًا بلا تكلُّف ولا تصنُّع بيني وبين الله. في أفقِ الحوار يبدأ الله يُظْهِر ذاته. تبدأ رؤانا وخططنا وأفكارنا تتراجع ليدخل مكانها رؤاه وخططه وأفكاره وطرقه. سنقاوم هذا الأمر بكلّ تأكيد لأنّنا مفطورون على الاتّكال على ذواتنا وإنْ جاهرنا في صلواتنا بكلمات التسليم! هناك مسافة كبيرة علينا أنْ نعبرها بين ما نقوله ونرغبه وبين واقعنا الحقيقي وتصرفاتنا في الحياة اليوميّة. ولكن مع استمرار الصلاة المُخْلِصَة ستتراجع الفجوة بين ما نُصَلّيه وبين ما نحياه.
يكتب فيليب يانسي (في مؤلّفه: الصّلاة هل تُحدث أي اختلاف؟) فيقول: ”أنا أصلّي كي أسترد حقيقة الكون، ولكي أنال لمحة عن العالم وعن نفسي من خلال عيني الله. في الصّلاة أحوِّل رؤيتي بعيدًا عن أنانيتي، أرتفع فوق ذاك النطاق الشجري الأرضي وأنظر إلى النقطة التي هي نفسي، أُحدِّق في النجوم وأتذكَّر أي دورٍ ألعبه أنا أو أيّ منّا في كونٍ أبعد عن حدّ التصوُّر. الصّلاة هي فعل رؤية الواقع من خلال وجهة نظر الله.“
سَتَمُر صلاتنا بمنعرجات كثيرة على الطريق. سنصلّي كثيرًا لنبقَى في حالة الفرح والنشوة الداخلية على الدوام مهما تَكَلَّف الأمر، ولكننا سنجد أنّنا نعود إلى القلب الشاحب من جديد حينما تفتر رغبتنا في الصلاة أو حينما نعتادها، أو، وهو الأمر الخطير، نكتفي بفتاتٍ من فرحٍ قبل أنْ ندخل إلى رواق الوليمة المَلَكيَّة. نعم، في الكثير من الأحيان، حينما نرى أنّ قلوبنا بدأت تنبض بالحياة من جديد، نسترخي ونهنأ بالحياة. إلاّ أنّ عدم الاستمرار في الصلاة يجعلنا نَفْقِدُ نغمات القلب الطروب، وتفر الحياة من بين أيدينا مرّة أخرى لنجد روحنا تُعْتَقَل من جديد وتُأسر للعدو الذي يُلقي ببرودة الموت على القلب النابض الذي ينازع لأنّه قد تذوَّق الحياة!
إنّ هذا لا يعني أنّ كلّ صلاة صليناها وبعدها انزلقنا في البُعْد صارت بلا جدوى. كلاّ، إنّ كلَّ صلاةٍ تُقَدِّس وتُكَرِّس لي الزمن وتُحَوِّله إلى خبرة آتية من العوالم الأبديَّة لتَصِر مُخْتَزَنة في كياني الداخلي. لا يمكن فقدان الخبرة، ولكن يمكن تجاهل الخبرة. بيدْ أنّه، عندما يسترجعك الروح من السبي، وتَقْبَل، فإنّه سيبني على تلك الخبرة السابقة، سيظهر لك ما قد تذوقت وعاينت من قبل، لتتحرَّك للأمام. تلك اللّحظات مؤلمة، لأنّ مذاقة النور المفقود تجعلنا نتألِّم من لحظات الغياب عن دائرة النور والحياة. هذا أمر هام لتوبتنا؛ أنْ نعاني من فرط شوقنا للنور المفقود، ونبدأ في الخضوع للروح الذي يَعِدْنا بأنّه آتٍ بنورٍ وحقٍّ، ويريد أنْ يَمْكُث معنا، في يسوع.