الشركة معًا عونٌ كبيرٌ. حينما نَجْتَمِعُ معًا للصلاة إنّما نَجْتَمِعُ لأنّ نيرانَ كلاًّ منا القلبيّة ليست كافيّة. كلٌّ منا يَشْعُر ببرودةٍ في الروح وحيدًا ولا يقوى على أنْ يشتعل منفردًا. نعاني في وحدة داخليّة وإن كان حولنا المئات من الأصدقاء والأهل والأقرباء! كثيرًا ما لا يكون لدينا الحَطَب الكافي الذي نُقَدِّمه للروح حتى يُشْعِلُ فينا الحبّ والرغبة في الصلاة وملاقاة الله. يرجع هذا لأسباب كثيرة منها: التيه الفكري، والخبرات المؤلمة التي أفقدتني القدرة على الثقة في الله مجددًا، ومنها الخمول الروحي وعدم الشعور بحركة الحياة، قد يكون من الأسباب صُحْبة لاهية أو هدفًا غير متّضح المعالم للنّفس أو قساوة قلب انسلّت إلى الداخل مع إدانة قاسيّة أو تحجّر أحشاء أمام مظلوم أو متألِّم أو مريض .. إلخ. قد يتشابك كلّ هذا معًا فيَفْقِدُ الإنسان قواه على النّهوض. يجلس في وحدته الداخليّة يَرْقُبُ الأيام تَمُرُّ وهو بلا حِراك. يصرخ آنًّا راجيًا مَنْ يَحْمِلَه إلى حيث يسوع كالمفلوج الذي دُلِّي على سريرٍ في مقابل المُخَلِّص.
حينما نجتمع معًا، يُقَدِّم كلّ واحدٍ منّا ما يقدر عليه من حَطَبٍ، وكلّما ازداد الحطب ازدادت النيران بالتَّبِعَة. في الشركة نجتمع معًا حول تلك النار المُضْرَمةُ بيننا، في حَطَبَنا المُشْتَرَك، لنستدفِئ معًا من لفحات البرودة العالميّة التي تَعْبُر على الروح فتسحب منها الحياة. إنّ النيران المُشْتَعِلة من الروح الحاضر في كلٍّ منّا تَلْفَحُ أرواحنا بقوّةٍ أكبر.
لم يُرْسِل الربّ يسوع تلاميذه إلاّ اثنين اثنين. فمَنْ يحيا وحده قد تُحَاصره اللّيالي البّاردة فلا يقوى على النهوض ولا على إيقاد النّار، بل وقد يَدُبُّ فيه اليأس فتمضي حياته؛ أيامه ولياليه، في التيه. يستشعر الدقائق ثقيلة لأنّها باردة وحركتها متباطئة لأنّ النار لم تشتعل لتُحَوِّلها إلى دقائق مقدّسة.
لذا نحتاج بعضنا بعضًا. نحتاج لنيران الجماعة ليستدفِئ بها الضعيف فيما بيننا، وكلّنا ضعفاء في لحظة ما من حياتنا. حينما ترى الجماعة أنّ عضوًا فيها قد لاحقته برودة العالم، تلتف حوله لتُصَلِّي، لتُلْقي أمَامه بالحَطَبَ المُقَدَّس؛ التضرُّعات القلبيّة المُخْلِصَة التي تَثْقُ في عمل الروح. تساعده على أنْ ينال قَدْرًا من الدفء ليقوم ويجمع له حطبًا حتى يمكن للنار الإلهيّة أنْ تُشْعِلُ عالمه من جديد.
لقد كان الربّ يسوع حريصًا على تكوين جماعة مُلْتَئِمة بالروح، تُصَلّي معًا، تتعلَّم معًا، لتَشْهَد معًا. حينما تُصَلّي الجماعة معًا فإنّ كلَّ شيءٍ يكون مشتركًا بينها (أع2: 44). لا يفرح أي عضوٍ فيها بتقوى ذاتيّه والجماعة باردة. إنّه يحمل النيران التي أضرمها الله في قلبه، لأخوته، ليكون لهم فيها نصيب. يكتب القديس مكاريوس الكبير عن تلك الشركة في النور والنار، فيقول: ”لقد كان الرُّسُل في نفوسهم أنوارًا. لقد قَدَّموا النور لكلِّ المؤمنين، فأناروا قلوب الناس بنور الروح السماوي، ذلك الذي هم أنفسهم كانوا به مُسْتَنيرين.“
إنّ كلَّ عضوٍ في الجماعة يأتي ليشارك بأنّات قلبه، برغبته المقدّسة، بمخاوفه، بشوقه الجارف، بشغفه لتبعيّة المخلِّص، بتحدياتٍ تواجهه في حياته، بضعفاتٍ يَمُرُّ بها، بخبراتٍ قد حازها بافتقادٍ إلهيٍّ من العَلاء ... يأتي بكلّ ما يملك إلى رواق الصلاة، بين أخوته المحبّين تحت أقدام المعلِّم. إنّ الصلاة الجماعية تدرِّبنا ألاّ ندين ضعفات مَنْ حولنا، ولكن نصلّي من أجلهم. في الصلاة يحدث ختانٍ مُقَدَّس للأعين، تلك التي كانت في غرلتها تدين بقسوةٍ، لترى، في المقابل، في تصرفات الخطاة، احتياجًا إنسانيًّا ومرضًا إنسانيًّا، فتُرْفَع للعلاء متضرعة بدموعٍ. مَنْ أَرَاد أنْ يَتَخَلَّص من روح الإدانة التي تضرب بجذورها في قلبه، عليه بالصلاة مع أخوته، ولأخوته. بهذا تشتد الجماعة لأنّها تُشَارِك معًا أنّاتها وشوقها ورجائها بآنٍ واحدٍ. يدخل الأعضاء فرادى فيخرجون جسدًا واحدًا متماسك الرؤية واليقين ليعبروا الماء والنار معًا، إلى الرّاحة المقدّسة معًا (انظر مز65). لا يمكن لجماعةٍ ما أنْ تَتَّحد بعيدًا عن بوتقة الصلاة الجماعيَّة، حيث الفردانيّة تنزوي ويحل مكانها الجسد الواحد؛ وهذا ما تُقَدِّمه الإفخارستيا الإلهيّة التي تُعيد تشكيلنا على الدوام كجسدٍ واحدٍ له رأس أوحدٍ.
حينما نُصَلّي معًا، نُعْلِن أنّ هناك ما هو ليس لذاتي يَشْغَل أَهَميَّة لديَّ. صلاةُ الشّركة تَصْلِبُ الفردانيَّة والعُزْلَةِ، لقيامة الجسد الواحد. نَتَدَرَّب على الشعور ببعضنا البعض، في الحضن الإلهي الذي يَضُمَّنا معًا، وهو ما يُوَلِّد في داخلنا الحُبّ الصادق لبعضنا البعض، إذ تَنْسَكِب أحشاء حبّ الله في كلّ واحدٍ منّا، فنرى مَنْ حولنا محبوبين من المحبوب، فنبدأ في محبتهم بالروح والحق. إنّه ليس تلاقٍ نظري لتطارُح الأفكار ولكنّه التلاقي المُقَدَّّس الذي تذوب فيه جدران الذاتيّة، والتي من تحتها تنبت جذور التحزّب والشقاق والكبرياء والاستعلاء العرقي والطبقي والديني والفكري ... إلخ، ليحل بدلاً منها مَرَعًى خِصب يقودنا فيه الروح للتلاقي معًا مع الله.