في حياتِنا نسعَى بكلّ الطُرق أنْ نتلامس مع الحياة، نَتَطَلّع لنَنْهَل من مياه اليقين لعل العطش العميق الذي في قلوبنا يهدأ قليلاً. كلّ توتُّرٍ فوضوي في قلوبنا هو نتاج صرخات احتياج داخلي ونوبات من العطش المؤلم التي تجتاح النفس فتُلْقِي بها على الأرض العَرَاء وهي تتأوَّه بحثًا عن قيمةٍ ومعنًى وشيءٍ حقيقي تحياه. كلُّ محاولات إرواء العَطَش للأبدي من كؤوسِ الزمن بتعبير جوستاف تيبون هي محاولاتٌ لن تزيدنا إلاَّ عطشًا. كلُّ مسعًى نَشُقّه لأنفسنا لنتهرّب من تلك الصرخات بالمزيد من العمل، المزيد من الأصدقاء، المزيد من ملء الوقت، المزيد من الانغماس في علاقات خاطئة، المزيد من السقوط في بئر العادات، لن تُوقف سَيْل الحقيقة المتدفّق وزَحْفَها، ولكنّه سيُصيبنا بالصَمَمِ تجاه الصَّرخة الداخليَّة المدويّة من فرطِ الجوع للحقِّ، بينما الحياة تَشْحُب رويدًا رويدًا من القلب، والرجاء والمعنى يتآكلان ولا يتبقَى سوى الشعور بالخواء والعدم!
في المقابل، إنّ المحاولات الخاطئة للوصول إلى ارتواءٍ دائمٍ ستجعلنا نتساءل دائمًا حول البديهيات. بدلاً من أنْ نذهب نحو البئر لنلاقي المُخَلِّص ونرتوي من اللّقاء الذي يعيد رَسْمَ ملامح المعنى لوجودنا الحقيقي، ليُعَرِّفنا على أنفسنا وعلى الحقيقة الجوهريّة في الحياة التي نحياها. سنذهب إلى مخادعنا ومآقينا مُتَحَجِّرة والدموع متجمِّدة من فرط الألم، ونخادع أنفسنا بأنّه لا وجود لله، ولا لليقين، ولا للحقيقة، ولا مياه مَنْ يَشْرَب منها لا يعطش، ولا لإمكانية الارتواء الشخصي من هذا البئر، إنْ وُجِدَ!!.
الكثيرون يميلوا إلى رفع رايات التسليم أمام دوامات الحيرة! ويحاولوا برمجة اللاّوعي لديهم للانفلات من توتُّر الابتعاد عن الحقيقة!
الكثيرون يتوقفوا أمام غابة القلب المتشابكة ويتأوهون من تَشَعُّب الطُّرق وكثرة المنعرجات ويستسلمون للتيه! بل ويصنعون من التيه قاعدة لمَنْ حولهم!
الكثيرون يُغمضون أعينهم لأن ما يرونه مؤلمٌ بالرغم من كونه حقيقي!
ولكن الحلّ ليس في الانسحاب والهروب من المواجهة، بل في الصمود واستمرار المسيرة بالرغم من كمّ الجراح وفرط الأنين ..
الحلّ في المزيد من الارتواء من مياه الحياة وليس في التهرّب من مواجهة الحياة والقناعة بحتميّة الانهزام وقوّة العدم!!
إنّ الربّ يسوع أعلن عن نفسه حيًّا ببراهين كثيرة، وحتى الآن هو على أَهُبِّة الاستعداد أنْ يُعْلِن عن ذاته حيًّا، لنا، ببراهين كثيرة .. هو فقط يريد أنْ يرى أولاده في عُليَّة الصلاة ليرفعوا، في حضوره، نغمات الرَّغبة الصادقة الجريئة في التعرُّف على الحقيقة الإلهيّة. إنّه يريد أنْ يَسْتَمِع للكلمات المُحَبَّبة لدى أبيه وأبينا؛ ”لتكن مشيئتك“. ففي الخضوع للمشيئة - مهما كانت أشباح المخاوف تتراقص من سيناريوهات النتائج - نمنح المسيح مساحة في حياتنا ليبدأ في تشكيل الواقع بشكلٍ جديد. لكي ما يَظْهَر حيًّا لنا ببراهين كثيرة، هو يريد أنْ يرى برهان الاشتياق والرَّغبة في قلوبنا لحضوره. هو يُنَبِّهنا أنّ حضوره ليس ناعمًا .. لن يأتي وتبقَى حياتنا رَهْن المعتاد والمألوف والمتعارف عليه .. .كلاّ .. حضوره مزلزل. إنّ ”المعرفة الروحيّة“ - بحسب تعبير ماراسحق (النسكيات، مقال 18) - ”لن تأتي من الإيمان السّطحي الرخيص“. ولكنّه لن يطالبنا بأمرٍ لم يسبق فيهبنا نعمة إتيانه. إلاّ أنّ مَنْ يريد البقاء في دوائر أمانه الخاصّة رافضًا بشكلٍ باتٍ مُخاطرة الخضوع للمشيئة الإلهيّة عليه ألاّ يَلِح في طلب الحضور! لا تطلب حضورًا وأنت قانع بحياتك! عليك أنْ ”تحب المخاطرة من أجل الصّلاح“ كما كتب القديس كيرلس الكبير (السجود والعبادة بالروح والحق، مقال 3).
لن يتقبَّل الإنسان إعلان الربّ يسوع عن نفسه أنّه حَيًّا إنْ استقرَّت حياته ولكن في البقعة الخاطئة. لن يتوقّف الله عن القرع على الأبواب ولكنّه لن يقتحم قلبًا أوصد في وجهه بالرفض له أو الرغبة في حضورٍ إلهيٍّ مشروطٍ برغبات الإنسان! لن يمكن للطبيب أنْ يُمَارِس عمله في مريضٍ يحتضر إنْ خَضَعَ الطبيب لشروط المريض من ضرورة اتباع آليات بعينها في العلاج! قبل أنْ نطلب أنْ يُعْلِن الله عن نفسه حيًّا في حياتنا ببراهين كثيرة، علينا أنْ نُبَرْهِن أنّنا نراه طبيبًا وأنّنا نرى خيوط المرض التي تلتف حول عنق القلب الكسير وتخنق وجودنا يومًا بعد يوم. هذا لن يتحقّق دون أنْ نقترب إليه متمتمين في آذانه: أيّها الطبيب الحقيقي، ها حياتي كلّها، ليس فيها ثمين. ما ظننته أمانًا في حياتي استحال ألمًا، ومن ظننته سندًا صار ثقلاً. ها حياتي، قُدها أنت في المسار الذي للحياة الحقّة. لن استوقف أناملك التي ينتج عنها جرحٌ لأنّي أثق في عُصَابة الحبّ التي تُحَوِّل الجراحات إلى نوافذ لعبور الحياة من جديد بين ثنايا عالمي الشاحب. لن أسمح مُجَدَّدًا لتأوهاتي أنْ تُوقِف مشرط الحبّ من أنْ يؤدي عمله. سأذيب التأوهات في الثقة فيمَن يُمْسِك بيده المشرط. لن أتوقَّف أمام الدمِ النازفِ ولا الدّمع المُنْسَاب أو الجرحِ الغائرِ، ولكن سأثبّت عيني على وجهك البَّاسم الذي يزرع اليقين والطمأنينة والأمل.
حينما يرى الله تلك الرغبة المُصَارِعة للبقاء في يقين الإيمان به، يبدأ يُعْلِن نفسه حيًّا ومُحْيِيًّا ... سيَكُسِّر المتاريس الحديديّة التي تحتبس الرجاء في غياهب سجون اللاّمعنى، ليَظْهَر للنفس حيًّا .. نابضًا بالحبّ .. حاملاً جَرّة الحقيقة لمَنْ يَقْبَل أنْ يَتّحد به ليُعانِق الحقيقة فتنساب مياه الحقيقة كجداول مياه على أرضه القفرة ..
إنّ الربّ يسوع حينما يتجلّى حيًّا للنفس سيبدأ في رسم ملامح ملكوته لأنّ تلك الملامح تعيد تشكيل وعي الإنسان من جديد. الحقيقة لا يمكن الوصول إليها دونما الحديث عن الملكوت كمركز للحياة الجديدة. يمكن للإنسان على الدوام أنْ يُخَلِّق معانٍ جزئيّة ومرحليّة ولكنّها تذوب كقطعة جليد أمام لهب شمعة صغيرة حينما يتذكّر الإنسان أنّ الحياة ليست دائمة. الموت يُذَكِّر الإنسان أنَّ كلَّ معنًى صغير وجزئي لن يمكنه أنْ يقود الإنسان إلى الميناء الحقيقي الآمن الذي يمكن للنفس أنْ ترسو برجائها عليه.
تتشكَّل ملامح المعنَى الحقيقي لحياتنا من خلال التمركز في تلك البقعة التي يبدو أمامها الموت كوحشٍ ولكنّه منزوع الأسنان ومُقَيَّد إذ لن يَتَمَكَّن من أنْ يلتهم الرجاء المتمركز في تلك النقطة؛ ملكوت ابن لله. لن يمكن للموت آنذاك أنْ يُلاشي قيمة ما نَعْمَله، وإن كانت أمورًا صغيرة وبسيطة، في دوائر العدم. سيكون لكلّ أمرٍ نَعْمَله معنًى حينما يكون الملكوت في المركز من عالمنا. ستكون ابتسامة للآخر أو جلسة مع متألِّم أو زيارة لمريض أو افتقاد ليتيم أو مساندة لأرملة أو الرفق بمسنٍ أو مصاحبة أطفال أو تربية أولاد أو حضن دافئ لمَنْ يَشْعُر بالوحدة أو كلمة حقيقة لمَنْ تَحَيَّر بمثابة ذخيرة ملكوتيّة لبناء الملكوت في قلب الإنسان الذي يقوم بمثل هذه الأمور، كما في الحياة الإنسانيّة بشكل عام. لأنّ المشاعل قرّرت أن تتّحد بنبع النور .. بنار الحقيقة .. لتمارس دورها في سكب ذرات الضياء أينما ذهبت.