من يجرؤ اليوم أن يجاهر كما القديس بولس ويقول: أنا عالمٌ بمن آمنت، وموقن أنّه قادر أن يحفظ وديعتي إلى ذلك اليوم. قبل أن يجهر البعض بفورة الإقدام ليقول: ”أنا“ عالم بمن آمنت! علينا أن نتعرّف على ذاك الذي عرفه القديس بولس. إنّ معرفته للربّ يسوع والذي يجاهر بقوّة أنّه عالمٌ به، لم تكن معرفة خاملة هادئة وقتيّة مرحليّة! كلاّ، لقد كانت تلك المعرفة مبنية على الصخر. كانت معرفة ناتجة عن نار مُمَحِّصة ..
ما يجعل كلمات القديس بولس ذات مصداقية رسوليّة واختباريّة في نفس الوقت، هي أنه قد تلامس مع الله في مختلف المواقف. تلامس معه في وحدته، وفي شركته مع الآخرين. تلامس معه حينما كانت تنكسر به السفينة، ويُحاط بالشعور بالخطر، وحينما كان يسكن آمنًا هادئًا وسط جماعة من المسيحيين الأتقياء. تلامس معه حينما ضُرِبَ ورُجِمَ بقسوة وكراهيّة من الذين يعتقدون أنّهم يدافعون عن الله! وقد قارب الموت. وتلامس معه حينما كان حرًا طليقًا صحيحًا يتحرّك يمينًا ويسارًا ينشر بهجة الإنجيل. تلامس معه حينما خانه الأقرباء، وشكّكوا في مصداقيّة، رسالته وتركوه وحيدًا كفيجلُّس وهرموجانوس. وتلامس معه حينما كان برفقة أولئك اللذين كانوا له مصدر تعزية كتيموثاوس ابنه الروحي، وبريسكلا وأكيلا الذين غامرا بحياتهما من أجله وأنيسفورس الذي لم يخجل بسلسلته. تلامس معه حينما كان يقضي الساعات في حياكة الخيام ليستطيع أن يوفر قوت يومه. وتلامس معه حينما كان يرى وفور عطاء الأحبّاء حتى يتمكّن من الانتقال بالبشارة لمناطق جديدة. تلامس معه وهو يجاهر في اليهوديّة مدافعًا عن قضيّته. وتلامس معه وهو ملقىً في السجن. تلامس معه وهو يرى كراهية من حوله له لا لشيء إلاّ لأنّه يبشرهم بما لم يعتادوه. وتلامس معه حينما كان يرى ثمار الحبّ تزهر من بذار الإنجيل الذي نثره أينما ذهب. تلامس معه وهو عاكفٌ على الكلمة باحثًا عن حقيقة ذاك الذي دعاه. وتلامس معه وهو يصلّي طالبًا استعلانات لمسيرته الروحيّة من ذاك الذي دعاه.
إنّ المعرفة لله يجب أن تكون شموليّة .. يجب أن نثق فيه في لحظاتنا الإنسانيّة المتناقضة. إن وثقنا فيه وآمنا به، وأعلنا أننا عرفناه في اللحظات الهادئة والممتلئة بالتعزية، لم تكن تلك هي ”المعرفة“، ولكنّها فقط خبرة من خبرات التعامل مع الله، أو فقط معرفة وجه من أوجه تعاملات الله مع الإنسان. ولكن لكي نعرفه يجب أن نكون جنودًا مخلصين، نحيا إخلاء ذواتنا حتى من ملاحقة البهجة الروحيّة، فقط أن نكون له ونحقِّق مشيئته، ونغامر بما نملك من أجل أن تمتلكنا تلك المعرفة، هذا هو الذي يجعل معرفته ممكنة.
إنّ المعرفة الأصيلة للربّ يسوع، ابن الله الحي، هي نتاج تلامس معه في مختلف المواقف، ومختلف الحالات الإنسانيّة التي نمر بها، ومختلف التحديات التي نخوضها، ومختلف الضيقات التي تحاصرنا. إنّها معرفة ترفعنا للأعالي لتعلن أنّه يضبط كلّ شيء في يده، لا شيء خارج عن سلطته الإلهيّة، ولا شيء يمكنه أن يُغَيِّر من تعامله المُحِب للإنسان وإن لم ندرك أو نستوعب الذي يحدث، هنا تحدي المعرفة؛ أن نعلن ثقتنا بالرغم من عدم قدرتنا على الفهم. لكي نعرفه يجب أن نعترف بمحدوديتنا، ونترك له زمام القيادة.
أمرٌ آخر، إننا لن نتمكّن من أن نختبر لمسات الرحمة الإلهيّة إلاّ ونحن نعاني من ضعف شديدٍ، ولن نختبر لمسات القيامة إلاّ حينما نكون منطرحين، ولن نختبر لمسات الفرح إلاّ ونحن مثابرون. لماذا نصلي طالبين الرحمة ليل نهار؟ لأنّنا نعاني من السقوط ليل نهار، وهذا ما يجعل من الغفران خبرة معرفة لم تكن ممكنة إلاّ لمن عانى من الغربة عن الحضن الدافئ الذي لمراحم إلهنا السخيّة. لقد طوّب القديس يوحنّا السلّمي (الدرجي) الذين أخطأوا وتابوا، لأنّهم تذوقوا المراحم الإلهيّة الفائضة وهو ما شحن إيمانهم بالغيرة للسير خلفه باندفاع الحبّ.
إنّنا نعاني، على ما يبدو، في الكثير من الأحيان، من المعرفة المشطورة، إنّها معرفة مجتزأة، غير كاملة. الأمر المؤلم أنّنا نحوّل تلك المعرفة غير الكاملة إلى معرفة قياسيّة، أي إننا نحاول قياس نمونا الروحي ونضوجنا الروحي ومسيرتنا الروحية استنادًا إلى ”قضمة الخبرة“ تلك! وحينما نعاني من تحديات مختلفة نجد أنّ تلك المعرفة تتساقط أوراقها وتتركنا عراة من الوعي الروحي الصحيح. من هنا تبدأ هجمات الشك والتشكّك، الحيرة والتيه، الرفض والعناد، والملامة لله! كلّ هذا لأنّنا اعتقدنا أنّ ”خبرة معرفة“ هي هي ”المعرفة“ وتوّهمنا أنّنا عالمون بمن آمنا!
نحن نعرف من هو، بكل تأكيد، فهو المسيح ابن الله الحي، كما أعلن القديس بطرس، ولكننا نعاني كما عانى القديس بطرس من عدم القدرة على فك شفرة تعاملاته، ففي الكثير من الأوقات نقول له حاشاك (انظر مت16: 22)!!! وذلك لأنّنا لم نعرفه بالرغم من شهاداتنا له!!
علينا أن نتساءل: هل عرفناه في السعة والضيق، في الألم والبهجة؟ هل عرفناه في العري والاكتساء، في الشبع والجوع، في الاضطهاد والكرامة، في الملاحقة والطمأنينة؟ هل عرفناه حينما كنّا وحدنا مرذولين من الجميع، وحينما كنّا في شركة برفقة الجميع؟ هل عرفناه في لحظات الشك المرّة ولحظات الاختبار المُسِرَّة؟ هل عرفناه في أوقات الاختيارات الصعبة وفي أوقات الثقة في الطريق؟ هل عرفناه في لحظات السقوط المريرة وفي لحظات القيام المفعمة بالنشوة؟ هل عرفناه ونحن نعاني من الرفض الجارح؟ وهل عرفناه ونحن نسكب القبول والحب، به، على من حولنا؟ هل عرفناه في العطاء والبذل حتى الوجع؟ وهل عرفناه ونحن فاقدو القدرة على مدّ يد العون للمحيطين بالرغم من مشاركتنا لهم ألم الحاجة؟ هل عرفناه في صمته من جهتنا وفي حواره لنا؟ هل حقًّا عرفناه؟
لقد قال القديس بموا (أحد آباء البرية): ”إن كان لك قلبٌ يمكنك آنذاك أن تخلص.“ من وُلِد قلبه من جديد، صار إنسانًا عارفًا الله بالحق والصدق. والقلب ينبض على الدوام، هكذا كل من عرف الله، تنبض فيه الرغبة الدائمة في أن يكون له بالتمام.
من الضروري أن نتّضع؛ أي ندرك حجم معرفتنا له حتى يمكننا أن نطلب المزيد، ونلح في السؤال وقرع باب الاستعلان الإلهي ونطلب قلبًا لكيما يُكشف لنا أعماق جديدة في معرفته، لكيما نقترب من وجهه بالأكثر، ونتفرّس بوضوحٍ في ملامحه والتي تحمل العديد من المعاني والرسائل لنا، إن أعرناها آذاننا.