من الأمور المُلْفِتة للنظر في حياة وتعاليم الربّ يسوع أنّه كان دائمًا ما يُخَلِّق حالةً من الحيرة في قلوب مُسْتَمِعيه. لا يَسْتَهْدِف من هذا الأمر بكلّ تأكيد أنْ يَتَبَنَّى نسبيَّة الحقّ - وكأنّ الحقّ نسبي وليس مطلق - بل بالأحرى لكي يضع بِناء الحقّ على أرضٍ صَلْبةٍ، كان يجب أولاً أنّ يُخَلْخِلَ كلَّ الأبنية التي ليست من الحقّ والتي تَعَبَّد بها الإنسان طويلاً، وصَنَع الإنسان في أروقتها تصوراته الشخصيّة عن الله بل واختزن في غُرَفِها من الخبرات ما ليس من الله في شيء. دون الخَلْخَلَةِ لا يُمْكِن للبناء أنْ يَرْتَفِع لأنّ وَهم اليقين سيظل مُسْتَعْمِرًا لقلوبنا وأفكارنا ونحن آمنون مطمئنون. هناك مَنْ يُخَلْخِل المفاهيم الروحيّة بمنطق الشك الديكارتي (نسبة إلى الفيلسوف الفرنسي ديكارت)، إلاّ أنّه في أغلب الأحيان يفتقر إلى إعادة البناء بشكل صحيح. إنْ لم تُخَلْخَل التّصورات الخاطئة من قِبَل مَنْ يمتلك الرؤية والتصوّرات الصحيحة وفي أجواء من الصلاة والتضرُّع، لن نحصل إلاَّ على أنقاضٍ وركامٍ في نهاية الأمر. هناك مَنْ يُخَلْخِل بالروح ولملكوت الله، وهناك مَنْ يُخَلْخِل بالذكاء البشري لصُنع مملكة من النسبيّة في الحقّ مُتوهِّمًا أنّ مثل هذا المَسَار أفضل من الجمود والتحجُّر. أعتقد أنّ فوضَى النسبيّة إنْ اجتاحت قلوبنا لن تُبْقي على معنًى للحياة وسَتَظَل تَتَوَغّل حتى تَضْرِب أَقْدَس ما نملك؛ إيماننا بالله في المسيح يسوع. هذا لا يُبَرِّر بالطبع الجمود والتَحَجُّر الذي قد يكون كارثيًّا على الشخص والمجتمع لأنَّه نَبْعُ الأصوليّة العنفيّة في أغلب الأحيان. على أي الأحوال، من الهام أنْ نُدْرِك خطورة خَلْخَلَةِ ما نراه خاطئًا في البناءات الرُّوحيَّة لمَنْ حولنا إنْ لم نَمْتَلِك تصورًا صلبًا لكيفيّة البناء وشكل البناء اللاّحق. مثل تلك الخَلْخَلة لن تقودنا إلاّ نحو المزيد من الفوضَى الروحيّة.
في المقابل، حينما كان يتصرَّف / يتكلَّم / يُعَلِّم يسوع كان يُحْدِثُ موجةً من التساؤلات المُمْتَزِجَةُ بالحيرة. حيرته كانت مُلْهِمَة لأنّها تَدْفَع الإنسان للإنصات بأكثر جديَّة وللبحث بأكثر فاعليّة. يرى توم رايت (في كتاب: Creation, Power and Truth) أنّ إعلانات المسيح عن الحقّ الإلهي - الخِلْقَة الجديدة، رفض الشرّ على كافّة المستويات، والتأكيد على النموذج الإلهي في الخليقة - كان يَلْحَقْها دائمًا موجة من الجَدَل كما نقرأ في (يو8) على سبيل المثال!
إنّ الجَدَل والتساؤل يتولَّد من الحيرة، ولكن ما أجمل أنْ يَدْفَعْنا الحقُّ أنْ نحتار في حقائقنا الذاتيّة لنَتَعَرَّى أمامه من كلِّ وريقات التّين المَعْرِفيّة التي ظنناها سترًا أبديًّا. إنْ لم نَكْشِفُ له ذواتنا وارتجافنا من فرط قسوة الحيرة الهَادرة كالبحر المُضْطَرِب، لن نَتَمَكَّن من أنْ نَتَلَقَّى ثوبًا من يقينٍ مغزولاً على المغْزَل السماوي. ذاك الثوب هو القادر أنْ يُدَثِّرنا بالدفء الأبدي؛ دفء اليقين والحقيقة المُغَيِّرة لحياتنا لتكون على صورته الإلهيّة.
إنّ يسوع هو وحده الذي يستطيع أنْ يُحَيِّرنا نحو الحق وليس بعيدًا عن الحقّ. لذلك كان محطَّ الأنظار على الدوام، الكلّ يُلاحِقُه؛ مُحبّيه وُمبغضيه على السواء. الجَمْعُ الأوّل يُلاحِقُه ليَرْتَشِف من ماء الحياة، والجَمْعُ الثاني يُلاحِقُه ليَتَصَيَّد له كلمةً وليُفَنِّد آراءَه ويُعْزِيها لقوى شيطانية ويذهب بها إلى خلفيّةٍ تآمريةٍ وكأنّه عميلٌ للسامريين قد اندَّس وسط اليهود ليُغَيِّر عوائدهم التي تسلّموها من الآباء؛ ”فَقَالَ الْيَهُودُ: أَلَسْنَا نَقُولُ حَسَنًا إِنَّكَ سَامِرِيٌّ وَبِكَ شَيْطَانٌ؟“ (يو8: 48)!
ما بين اعتراف البعضِ أنَّه صالحٌ وصُراخِ البعضِ أنّه مُضِلٌّ للشعب ارْتَحَلَ يسوعُ وكانت مسيرته ورسالته. نَمَطُ حياتِه يَدْفَعَنا لنرتاب في حياتنا إنْ كانت هانئةً من الميلاد إلى المَمَات. كلُّ حياةٍ يبدأ الروح يستثمرها للملكوت ستكون مُحَيِّرة للبعض وموافقة للبعض ومرفوضة من البعض. ليس الأمر جديدًا ولا مُفَاجِئًا، إنّما نحن الذين تغافلنا عن نَمَطِ حياة يسوع وتابعيه عبر العصور.
أثناء كلمة في مؤتمرٍ، قال أحدُ علماء الكتاب المقَّدس ذائعي الصيت إنّه يَحْتَار في كلِّ مَرَّةٍ يُلقي فيها كلمةً في الكنيسة حينما يقوم بعض الخدّام بتقديم قدحًا من الشاي والقليل من المقرمشات بعد العظة في هدوءٍ وكأنَّ أمرًا لم يحدث! في حين أنّ القديس بولس حينما كان يَتَكَلَّم - بل مجرَّد تواجده - كان يُثير قَلَقًا واضطرابًا لدى البعض .. يُثير الحيرة .. يجعل الجَمْعَ يتساءلون .. يَدْفَعهم لمراجعة مواقفهم وقناعاتهم .. يَبْتَعِد بهم عن كلّ أمانٍ واهٍ استندت عليه حياتهم وتقواهم. كانت كلماته، التي هي كلمات الروح، فاصلة بين النور والظلمة. هذا الفَصْلُ يَدْفَعُ مَنْ يحيون في النّور للمزيد من الثّبات والحركة للأمام، بينما يتباين موقف مَنْ يحيون في الظلمة من الرّفض الشّرس لدعاوى النور وما بين مراجعة النفس وقبول أَلَمِ الحيرة المُلْهِم حتى يبدأ الإنسان في سَكْبِ أوجاع عمره المُنْقَضي في غنًى زائفٍ تحت أقدام المخلِّص، مُعْلِنًا عَطَشه وجُوعه للحياة .. ومُسَبِّحًا إياه على افتقاده بتلك الحيرة المُلْهِمَة ... الحيرة صوب الحقّ وفي طريقه ...
إنّ الحيرةُ المُلْهِمَةُ هي حيرةٌ يُشْرِق من رَحِمها نورُ الحقيقة مهما طالت الليالي، إذ أنّ هناك مَنْ يَسْمَع وببحثنا وبسؤالنا دومًا يُبالي.