لقد كَتَبَ القديس بولس إلى شعب كنيسة كورنثوس مُحَذِّرًا من مَغَبَّة التَحَزُّب القاتل. لم يَبْتَهِج القديس بولس أنّ هناك مَنْ يقول إنّه لبولس في وسط الجماعة، كما أنّ أبُلُّوس وصفا (بطرس) كانا أبعد ما يكون عن تلك الأزمة التي نشأت في تلك الكنيسة في ذلك الوقت، بالرغم من وجود مَنْ يستثمر أسماءَهم في تلك المعركة. في الكثير من الأحيان، يُزَجُّ بأسماءٍ في معركةِ تَحزُّبٍ يكون أشخاصها الفعليين أَبْعَد ما يكونوا عن هذا الأمر.
على أي الأحوال، بعيدًا عن الفكرة الأساسيّة التي تشجب التحزُّب في الكنيسة يمكننا أنْ نستخلص درسًا هامًّا من هذا النصّ. هناك مَنْ يرَى أنّ السلوكيات الخاطئة تنتج بالضرورة من تعاليم خاطئة. بالطبع لا يمكن أنْ نقول إنّ هذه الفكرة خاطئة، ولكن هل هي دائمًا صحيحة؟ هذا هو السؤال.
إنّ التحزّب من الأمور التي كانت تكسر قلب القديس بولس. كانت دعواه للوحدانيّة هي أنينٌ داخليٌّ دائمًا ما يُطلِع عليه كلّ الكنائس في رسائله داعيًا إياها لتشاركه الأنين من أجل الوحدانيّة ومن ثمّ رفض التحزُّب المرير. إلاَّ إنّه من اللازم أنْ نقرأ النصّ السابق من زاوية أخرى حتى نتمكّن من الرد على التساؤل السابق الذي تم طرحه.
إنّ التحزّب - من قِبَل البعض - لبولس، كما يؤكّد هو في النصّ، لا يمكننا أنْ نَنْسِبه لتعاليم بولس الذي أسَّس هذه الكنيسة؛ فلقد كانت مناداته دائمًا تدفع الكنيسة لأن تتبنَّى قولاً واحدًا وفكرًا واحدًا. فإمّا أنْ يكون بولس قد نادى بالتحزُّب لشخصه وهو الأمر الذي يمكن أنْ يَسْتَنِد عليه البعض من خلال اقتطاع بعضٍ كلماته من سياقها كقوله: ”وَأَمَّا الْمُعْتَبَرُونَ أَنَّهُمْ شَيْءٌ، مَهْمَا كَانُوا، لاَ فَرْقَ عِنْدِي: الله لاَ يَأْخُذُ بِوَجْهِ إِنْسَانٍ فَإِنَّ هَؤُلاَءِ الْمُعْتَبَرِينَ لَمْ يُشِيرُوا عَلَيَّ بِشَيْءٍ“ (غل2: 6)؛ ”وَأَمَّا أَنَا فَأَقَلُّ شَيْءٍ عِنْدِي أَنْ يُحْكَمَ فِيَّ مِنْكُمْ أَوْ مِنْ يَوْمِ بَشَرٍ. بَلْ لَسْتُ أَحْكُمُ فِي نَفْسِي أَيْضًا“ (1كو4: 3)؛ ”وَلَكِنْ لَمَّا أَتَى بُطْرُسُ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ قَاوَمْتُهُ مُواجَهَةً، لأَنَّهُ كَانَ مَلُومًا“ (غل2: 11)؛ ”لأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ لَكُمْ رَبَوَاتٌ مِنَ الْمُرْشِدِينَ فِي الْمَسِيحِ لَكِنْ لَيْسَ آبَاءٌ كَثِيرُونَ. لأَنِّي أَنَا وَلَدْتُكُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ بِالإِنْجِيلِ“ (1كو4: 15)
وهنا تكون مسؤوليّة التحزُّب راجعة إلى تعاليم القديس بولس!! وهو الأمر بالتأكيد الذي لا يَقْبَلَه أيُّ قارئ مُنصِفٍ لرسائل وتعاليم القديس بولس إجمالاً. فمن الظلم أنْ نَنْسِب أخطاء الكنيسة التي أسَّسها له، وإنْ كان يجب أنْ تكون حياة الكنيسة شاهدة للتعاليم التي نشأت عليها، ولكن في آخر الأمر، نحن بشرٌ، وفي كثير من الأحيان نَعْثُر، ومن ثمّ ليس من الإنصاف أنْ ترتبط تعاليم القديس بولس بأخطاء مَنْ سمعوا له ذات يومٍ، أو بُشِّروا على يديه.
في المقابل، وفي تلك الحالة التي نناقشها، نجد أنّ التحزّب لا ينشأ من التعليم ذاته، ولكن من تقبُّل التعليم بشكل خاطئ، أو بمعنى آخر؛ تقبُّل التعليم بالإنسان العتيق الذي لا يُمات كلّ يوم، ومن ثمّ تتحوَّل التعاليم التي للحياة إلى سيفِ مُبَارزةٍ مع الآخرين. إنّ الأرض التي تستقبل البذار تُحَدِّد الثَّمر؛ ”فالزارع يزرع الكلمة في كلّ ذهنٍ، والذهنُ الذي يُثْمِر هو الذهن الجميل والخصيب“، بحسب كلمات القديس غريغوريوس اللاّهوتي (الخطاب 27، ضدّ أفنوميوس).
حينما كان يختلف القديس بولس مع بعض الرّسل في بعض القضايا المرتبطة بترتيبات الخدمة كما حَدَثَ في موقف برنابا ومرقص، وكما حَدَثَ في قضيّة التهوّد، لم يحاول القديس بولس أن يُزَكِّي شعورَ التبعيّة لدى البعض من خلال التقليل من شأن الآخرين، ولكنّه كان فقط يعرض حقائق. وفي نفس الوقت، لم يَقْبَل بأنْ يُكَوِّن له جماعة تُنَاصِره في مقابل آخرين. وهنا علينا أنْ نُدْرِك أنّ هناك فارقٌ بين رَفْض القديس بولس أنْ يُكَوِّن جماعة تناصره، وبين تَكَوُّن هذه الجماعة. إنّ الجماعة تتكوّن على أيّة حال بسببٍ من حبّ البعض لبولس، أو شعور البعض بمظلوميّة بولس، أو رفض البعض لممارساتٍ عند الطرف الآخر المُناهِض لبولس .. إلخ. تَتَعَدَّد الأسباب المجتمعيّة التي تنشأ من رَحِمها الجماعات المناصرة لشخصٍ ما، إلاّ أنّ بولس نفسه كان بعيدًا عن تذكية تلك الروح التي تبحث عن تكوين مُعَسْكَرٍ مُسْتَقِلٍّ في مقابل معسكرٍ آخر مستقلٍ، في الوقت الذي كان يحرص فيه على المناداة بالحق، وتشجيع مؤمني الكنيسة على اتّباع الحقّ وإعلانه. القضيّة هنا أنّه لم يقبل بشخصنة الموضوع. قد يكون مَنْ يناصرون بولس معهم حقّ في القضية التي يناقشونها إلاّ أنَّ هذا الأمر لم يُنَاقِشه بولس على الإطلاق؛ فالأزمة هي في التحزُّب واستخدام أسماء لتكوين تكتُّل أو لاستبعاد تكتُّل. إنّ القضية ليست بولس أو أبلوس أو بطرس، ولكن ”الحق“ الذي علينا جميعًا أنْ نتحرّك نحوه باتضاعٍ واستعدادٍ للترابط والتوحُّد معًا، مادام لنا نفس الإيمان الواحد، وخاصّة أنّ القديس بولس كان يكتب إلى كنيسة مَحَليَّة ويُنَاقِش وَضْعًا داخليًّا. من الهّام أنْ نَلْحَظ أنّ بولس كان يخاطب ”الإخوة“! أي أنَّ تلك الأزمة نشأت بين الإخوة، بالرغم من أنّ المشهد لمَنْ يقرأ النصّ من الخارج سيبدو له وكأنّه يَصِفُ حال جماعتيْن مختلفتيْن تمامًا في كلّ شيءٍ.
الأمر الثاني الهام هنا هو أنّ القديس بولس لم يقبل بتكتُّلٍ لاأخلاقيٍّ، أي أنّه لا يَقْبَل بتكوين تكتُّلٍ قائمٍ على التحزُّبِ لشخصِه أو لشخوصٍ أخرى مستخدمًا أدوات لاأخلاقيَّة كالتنابذ والمقاطعة والتجريح. التكتّل الوحيد الذي كان يهتم به هو التكتُّل لأجل ملكوت الله، حتى تَتَحَرَّك الكنيسة معًا بروح واحد، وفكر واحد، وقلب واحد، ولها رجاء واحد ودعوة واحدة.
ولكن، هل قَبِلَ الجميعُ من أولاده دعوتَه تلك، ورضخوا لما كان ينادي به ليل نهار؟ الإجابة: للأسف، لا. فالبذارُ صالحةٌ ولكن نوعيّة الأرض هي التي تُحَدِّد مدى الإثمار من عدمه (انظر مثل الزارع مت13: 1-9). لقد عَلَّم القديس بولس كثيرًا مُشَدِّدًا على ضرورة الوحدانية، كالآتي (على سبيل المثال لا الحصر): ”وَلْيُعْطِكُمْ إِلَهُ الصَّبْرِ وَالتَّعْزِيَةِ أَنْ تَهْتَمُّوا اهْتِمَامًا وَاحِدًا فِيمَا بَيْنَكُمْ بِحَسَبِ الْمَسِيحِ يَسُوعَ“ (رو15: 5)؛ ”لِكَيْ تُمَجِّدُوا اللهَ أَبَا رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَفَمٍ وَاحِدٍ“ (رو15: 6)؛ ”لأَنَّنَا جَمِيعَنَا بِرُوحٍ وَاحِدٍ أَيْضاً اعْتَمَدْنَا إِلَى جَسَدٍ وَاحِدٍ يَهُودًا كُنَّا أَمْ يُونَانِيِّينَ عَبِيدًا أَمْ أَحْرَارًا. وَجَمِيعُنَا سُقِينَا رُوحًا وَاحِدًا“ (1كو12: 13).
إنّ القديس بولس يُقَدِّم نفسه للكنيسة كوسيط التعارف بين الخطيب والمخطوبة، إذ يكتب: ”لأَنِّي خَطَبْتُكُمْ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ، لأُقَدِّمَ عَذْرَاءَ عَفِيفَةً لِلْمَسِيحِ“ (2كو11: 2)
هو يُعَرِّف الكنيسة بالعريس الحقيقي ويأمل أنْ تكون عروسًا ملتصقة به على الدوام ... ولكن بعض الأعضاء في الكنائس لم يَقْبَلوا بهذا الأمر .. لم يستمعوا لهذا التعليم وتوقّفوا عند المُعَرِّف دون أنْ يرتبطوا بالعريس!!
من جديد، من الظلم أنْ نَنْسِب للقديس بولس - مُبَشِّر تلك الكنيسة - أخطاءَ مَنْ تحتضنهم تلك الكنيسة. فلم يكن بولس داعٍ للتحزُّب، بالرغم من كون أولئك الذين نادوا بالتحزُّب هم مَنْ دخلوا للإيمان وانضمُّوا للكنيسة على يديه، سواء بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ من خلال أَحَدِ تلاميذه. لقد وَبَّخَ القديس بولس أولئك الذين تَحَزَّبوا لأشخاصٍ، مُؤَكِّدًا أنّهم يَسْلُكون بحسب الجسد (الإنسان العتيق)، لأنّهم لم يستطيعوا أنْ يدركوا أنّ الدعوة أعظم من الأشخاص، وما الأشخاص سوى أقلام يكتب بها الله كلمةً في ملكوته في زمانٍ ما ومكانٍ ما. لقد كتب: ”فَإِنَّهُ إِذْ فِيكُمْ حَسَدٌ وَخِصَامٌ وَ انْشِقَاقٌ أَلَسْتُمْ جَسَدِيِّينَ وَتَسْلُكُونَ بِحَسَبِ الْبَشَرِ؟ لأَنَّهُ مَتَى قَالَ وَاحِدٌ: أَنَا لِبُولُسَ وَآخَرُ: أَنَا لأَبُلُّوسَ أَفَلَسْتُمْ جَسَدِيِّينَ؟. فَمَنْ هُوَ بُولُسُ وَمَنْ هُوَ أَبُلُّوسُ؟ بَلْ خَادِمَانِ آمَنْتُمْ بِوَاسِطَتِهِمَا وَكَمَا أَعْطَى الرَّبُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ: أَنَا غَرَسْتُ وَأَبُلُّوسُ سَقَى لَكِنَّ اللهَ كَانَ يُنْمِي. إِذًا لَيْسَ الْغَارِسُ شَيْئًا وَلاَ السَّاقِي بَلِ اللهُ الَّذِي يُنْمِي“ (1كورنثوس3: 3-7).
ولكن ما علاقة هذا الأمر بثقافة الاختلاف في واقعنا الحالي؟
في الاختلاف علينا أنْ نراعي أنّ الغايات النبيلة لا يمكن أنْ نَصِل إليها بأدوات غير نبيلة. قد يُحَقِّق البعض مكاسبَ وقتيّة، ويَكْسبون ما يرونه معاركَ مُقَدَّسةً، أو إصلاحات ضروريّة، إلاّ أنّ النتيجة الحتميّة لهذا المَسْلَك هو تَحَوُّل في الغاية نفسها إلى غايات غير نبيلة إنْ لم تكن الوسيلة نبيلة بالأساس. وهنا لا أقصد بالوسيلة غير النبيلة؛ إعلان الحق بوضوحٍ ومجاهرةٍ. إنّ إعلان الحق دائمًا عملٌ نبيلٌ على أنْ يكون بلطف المسيح وحِلْمَه. لن يمكننا أنْ نُعْلِن ملكوت الله بإنساننا العتيق. لا يمكن أنْ نصرخ في العالم بالتوبة والرجوع إلى الله ونحن نُجَرِّح جسده ونمزِّق في أعضائه عَلَنًا. لا يمكن أنْ ندعو لحضن الله المتّسع ونحن نتفنَّن في إخراج أولاده من حضنه بالإساءة أو التشهير أو التشكيك أو التقبيح أو الشتائم أو تصعيد الأمور على صفحات الجرائد ... إلخ. إنّ ملكوت الله يُعْلَن بإنسانٍ جديد مولود من الماء والروح، مات ودُفِنَ في المعموديَّة، ليقوم والمسيح فيه، ويحيا على رجاء المجد، لا على رجاء انتصارٍ في معركةٍ أو في حوارٍ أو في جولةٍ نقاشيّةٍ مع آخرين.
الدعوة المسيحيَّة أكبر من هذا بكثير ..
حينما ننظر إلى حياة آبائنا الذين ناضلوا من أجل الإيمان، كان من السهل عليك أنْ تَعْرِف الطّرف صاحب الحقّ من الطرف المُخْطِئ من خلال التقوى .. من التسليم للمشيئة الإلهيّة .. من لُّغة الحوار .. من وضوح الهدف .. من السّعي للسلام .. من مَدْ الأيدي للوحدة .. من الاضطهاد الذي يَتَقَبَّله بشكرٍ دون أنْ يحاول القيام برد فعلٍ من نفس نوع الفعل الشرير، مع الاستمرار في إعلان الحقيقة. لقد كان آباؤنا على الدوام هم المُعْتَدى عليهم وليسوا المُعْتَدين.
لقد كتب القديس غريغوريوس اللاّهوتي (الخطاب 27، ضدّ أفنوميوس) عن أولئك الذين يختلقون الأزمات من لاشيء أنّهم ”نَسخوا طريق التّقوى وحَصَروا هَمَّهم في أمرٍ واحدٍ: عَقْد المسائل المطروحة أو وحلّها .. لخَطْفِ أنظار الجُهّال، ورغبةً في التمدُّح وابتزاز الثّناء، فيجب أنْ تَضج كلّ ساحةٍ عامّةٍ بدندنةِ خُطَبهم وأنْ يَثْقُل جوُّ كلّ وليمةٍ بُتَّرهات هَذَرهم، وأنْ يصبح كلّ عيدٍ وكلّ حِدَادٍ خاليين من بهجة العيد، حافلين بمرارة الحِدَاد، وأنْ يكون العزاء في ويلٍ أشد وطأة، في جدلٍ يخترق حجبَ الخُدور كلّها، وينقلها من مألوف بساطتها إلى القلق والاضطراب ..“ الجملة الأخيرة في كلمات القديس غريغوريوس هي المحوريّة إذ أنّ البعض ينتهك بساطة الكلمات ويؤوِّلها صانعًا موجةً عقيمة من الجدل والاضطراب حول لاشيء!
إنّنا اليوم نجد مَشَقَّةً حقيقيّةً في تحديد الأطراف التي على صواب لدخول الكثيرين إلى المشهد. هناك مَنْ يدخل المشهد لأنه يعرف الحقيقة ويدافع. وهناك مَنْ يدخل لأنّه يستشعر بالظلم نظرًا لخبرات مع الطرف الآخر ويدافع. وهناك مَنْ يريد أنْ يكون له دورٌ في المعركة فيدافع. وهناك مَنْ يبحث عن ذاته وسط جماعة ينتمي لها، فيعتنق صراعاتهم، ويدافع. وهناك مَنْ لا تزال جروحه نازفة فيدخل المعركة لينتقم ممّن جرحه فيدافع. وهناك مَنْ يحمل مرارة ضدّ طرف بعينه فيدخل ويدافع. وهناك مَنْ لا يعلم شيئًا ولكنّه يدخل ليتسلّى ويبدو أنّه يُدافع. الأسباب كثيرة، ولكن يبقَى المهم في كلّ هذا هو: المعيار الأخلاقي. يمكن للنوايا أنْ يُصْلِحها الروح، حينما تنضبط أدوات وآليات الاختلاف. فُقدان أخلاقيات الاختلاف مهما كان الطرف الآخر متجاوزًا يُفْقِد القضية مصداقيتها، بل ويُفْقِد الإنسان النعمة المؤازرة له، فينحدر ويتخبَّط بالأكثر وينتهج أساليبَ أكثر قساوة وحِدَّة ويجرح في الآخرين ويفرح ويتهلّل حينما ينزفون ويتراقص حينما يرى الوحدة تتمزّق والأشلاء تتناثر .. مُكَبِّرًا لإلهه!!! أَلا يجعل البعض من اللاّهوت وسيلة دفاع عن آلهته وأهوائه؟ هكذا تساءل القديس غريغوريوس اللاّهوتي (الخطاب 27، ضدّ أفنوميوس).
آه .. إنّ الحقيقة تنزف حينما يُدَافِع عنها مَنْ يُشْهِرون السيف ويُجَرِّحون في الآخرين ..
آه .. إنّ الله يرغب في صوت الحقّ الذي يتعلّم كيف يُسَلِّم الأمور بين يديه في الصلاة أولاً ويتحرّك بعد ذلك في إطار مشيئته ..
آه .. إنّ الله يريد أنْ يرى القطيع الصغير المُتألِّم المجروح المُهَان المُفْترَى عليه يُصلّي من أجل جلّاديه من قلب مُخلِصٍ يحمل همَّ الجسد الواحد ..
آه .. إنّ الله يبحث عمّن يقبل بأنْ يقودهم بأخلاقيات أبناء الله ليرسم بهم صورة صادقة عن الملكوت ..
علينا أنْ نقبل بالحقيقة أنّه لا أحد على صواب في كلّ شيءٍ فالجميع زاغوا وفسدوا .. ليس صالحٌ إلا الله وحده .. كلّنا في الموازين إلى فوق .. لا أحد بمفرده يمكنه أنْ يكون مالكًا لملء الحقّ .. فنحن بشرٌ .. ولغتنا الإنسانيّة نسبيَّة في التعبير عن الحقيقة المطلقة في نهاية الأمر ... لذا فإنّ الكنيسة بصفتها الجمعيّة (كلّ الأعضاء عبر العصور معًا) تُعَبِّر عن الحقّ للعالم من حولها ...
لقد كَتَبَ القديس يوحنّا الذهبي الفم (في أنّ الله لا يمكن إدراكه، العظة 3) عن الله الآب في جوهره، مُبْتَهِلاً وقائلاً: ”فلنَبْتَهِل إليه إذن لكونه الإله الذي لا يَفي به وصفٌ، ولا يَحُدّه عقلٌ، ولا يُرى ولا يُدْرَك. ولنَعْتَرِف أنّه يفوق قدرة كلّ لسانٍ بشريٍّ، وأنّه يَفْلِت من مَقابِض كلّ فهمٍ زائلٍ، وأنّ الملائكة لا يستطيعون كَشْفَه، ولا السارافيم تأمُّله، ولا الشاروبيم فهمه، لأنّه مُحْتَجَبٌ عن نظر طغمات رؤساء الملائكة والسلاطين والقوّات وجميع الخلائق دون استثناء، الابن والروح وحدهما يعرفانه.“
الله متسامٍ عن شموليّة الإدراك الإنساني، لذا فإنّنا نُخطئ على الدوام حينما نَهِمُّ بالحديث عنه. كما أنّ قدرات البشر في استيعاب طيف الحقيقة الإلهيّة متباينة بشكلٍ كبير. لذا، إنْ لم نخطئ في التفكير، يمكن أنْ نخطئ في التعبير عن التفكير، وإنْ لم نخطئ في التعبير، يمكن أنْ نخطئ في التوقيت، وإنْ لم نخطئ في التوقيت يمكن أنْ نخطئ في تقديم بعض التعاليم لنوعيّة من المستمعين ليست مُؤَهَّلة لذلك، وإنْ لمْ نُخطئ في انتقاء المُسْتَمِع الملائم، يمكن أنْ نخطئ في عدم إفساح وقتٍ كافٍ للتساؤل لضمان توحُّد الفهم، وإنْ لم نخطئ في هذا، قد نخطئ في الصمت في الوقت الذي كان ينبغي فيه الكلام، وإنْ لم نخطئ في الصمت، قد نخطئ لأننا لم نُصَلِّ بالقدر الكافي لنضمن أنْ يكون التعليم المُقَدَّم مؤمَّنًا بعمل الله وتهيئته للقلوب المستمعة، وإنْ لم نخطئ في كلّ هذا، قد نخطئ في نوايانا الداخلية سواء بعلمٍ أو دون علمٍ ..
مجددًا، نحن بشرٌ ولسنا آلهة .. نخطئ ونتعلَّم .. علينا تَقَبُّل هذه الحقيقة باتضاعٍ واستعدادٍ دائمٍ للتَعَلُّم ..
ولكن أنْ نعتقد أنّنا لا نخطئ وأنّ الطرف الآخر هو المخطئ على طول الخط لن يؤدي بنا لشيءٍ .. يمكننا فقط أنْ نُحَدِّد نوع الخطأ لتلافيه في المستقبل.
حينما حاول البعض إلصاق تهمة الزنا بالقديس أثناسيوس، وتم حَكْم المُخَطَّط وتأجير فتاة للشهادة في هذا الأمر، لم يحاول القديس أثناسيوس أنْ يَرُّد الصاع صاعين لمَنْ حاك ضدّه هذه المؤامرة .. لم يَسْعَ لعمل مؤامرة مُقابِلة ليكسب الجولة. لقد اتّكل على الله الذي آمن به، وقد نجّاه من تلك المؤامرة، إلاّ أنّه قضَى معظم حياته ما بين الهرب والنفي والملاحقة والمحاكمات والمؤامرات. لم يكن يَمْلُك سوى كلمته التي يَضْمَن أنّها ستبقَى شاهدة للحقّ من خلال صلاته اليوميّة واتكاله على الله، ليقود الله الأمور لمجد اسمه. وانتصرت الحقيقة في أثناسيوس في نهاية الأمر، ولكن بعد سنوات مريرة من النضال، وشعور لدى البعض بالحيرة أمام انتصار الشرّ في العديد من الجولات.
قد يقوم البعض بالتحزّب ولكن بغايات نبيلة بالفعل. حسنًا هذا لا يكفي. علينا انتهاج أدوات الملكوت من الصلاة والصبر وتقديم الحبّ والسعي للسلام وتجاهل الإساءة وعدم المعاملة بالمثل والمبادرة بالسلام وإن لم تأتِ ثمارها. قد لا ينتج عن هذا أي نجاح ظاهر مباشر ومُبَشِّر في تحويل الطرف الآخر نحو الحوار والسلام، إلاّ أنّه سيكون تأكيدًا أنّ ما نحياه هو إيمانٌ أصيلٌ. من المؤلم - أقول مجدّدًا - أنّ الكثيرَ من القضايا الصّادقة التي يُنَاضِلُ من أجلها البعض تَفْقِد مصداقيتها بسبب الأدوات الخاطئة!
يمكننا دائمًا أنْ نَتَفَهَّم اندفاع الشباب في الدّفاع عن قناعاتهم، ولكن من الضروري وسط التفهُّم أنْ نُشير إلى أنّ الغاية ليست كافية لتُبرِّر الوسيلة الخاطئة. لا يمكن لملكوت الله أنْ يُبْنَى بأيدٍ تجرح الآخر أو تعتدي على الآخر أو تُقبِّح من شخص الآخر أو تغتال سمعة الآخر أو تتكالب على ضعف الآخر .. لا .. ليس هذا ملكوت الله. إنّ ملكوت الله هو ملكوتٌ إخلائي .. ملكوتٌ، على مَنْ يؤمن به ويريد أنْ يكون جزءًا منه أنْ يقبل أنْ يتألّم مع السيّد، أنْ ينحني معه تحت الصليب، أنْ يتأوّه من ثقل الخشبة التي تَحْتَك بالجراح المُتَقَيِّحة، أنْ يرى أنّ ما يغلب الكراهية هو الحبّ، وأنْ النزول من على الصليب أو صناعة صليب للآخرين لن يَصِلْ به إلى مجد وجلال وبهاء القيامة في نهاية الأمر.
هذا لا يعني بكلّ تأكيد أنّ الشخص عليه ألاّ يُكَوِّن رأيًا ويتباحث فيه مع مَنْ حوله ويُقَدِّم الأسانيد والأدلّة على ذلك. إلاّ أنّ تلك المهمة تحتاج الكثير من الوداعة، وأيضًا سرعة استعادة الوداعة إن انفلتت من النفس من فرط الصراع المحيط. فعلينا دائمًا أنْ نكون على أَهُبَّة الاستعداد لأنْ نُجيب مَنْ حولنا عن سبب الرجاء الذي يسكن فينا، ولكن، بوداعةٍ وخوفٍ (انظر 1بط3: 15).