في الحديثِ عن الإيمان بالمسيح، ينزعُ البعضُ إلى تجميد لحظة ماضية أو وقت ماضٍ انفعل فيه القلب أمام النّعمة الإلهيّة مؤمنًا وخاضعًا لقانون الحياة الأبديّة، والتوقّف عندها طوال العمر. من المهم بالتأكيد أنْ نَسْتَحْضِر من ذاكرتنا تلك اللّحظات المُقَدَّسة التي انحنَى فيها القلبُ خضوعًا لعمل النعمة الإلهي والذي نشبت نيرانه في النّفس كتيارٍ عارمٍ لتُسْقِط القشورَ من على الأعين الروحيّة. كلّ فعل إيمان صادق وكلّ حركة إيمانيّة صادقة وكلّ جهاد على الطريق بإخلاص هو نتاج لُقيا النعمة. النعمة تساعد الإنسان على عدّة محاور منها أنّها تساعده على استعادة بصيرته المطمورة بين أتربة المادّة وغبارها، ليبصر الحقّ، ويتبعه، ليتّحد به. ولكن، بينما نلتقي النعمة في فرحٍ وأناشيد قلبيّة علينا أنْ نُدْرِك أنّ النّعمة لا تعني خمول الإرادة ولا فتور هِمَّة البحث عن أعماق الحياة مع الله أو الحياة في المسيح. النعمة ليست مَحَطًّا لخمولنا.
من المخاطر التي نعاني منها جميعًا هو استبدال الحركة والمسيرة والخضوع والأنين والشوق والإصرار والقيام من بعد السقوط، بذكرى النعمة الماضية. إنّها مخاطرة تقديس النعمة كذكرى ماضية لا كوجود حاضر. هذا يدفعنا إلى الاكتفاء القاتل في مسيرتنا الروحيّة بفتاتٍ من خبرةٍ، وبصيصٍ من المعاينة الإلهيّة! إنّ النعمةَ حضورٌ فاعلٌ، ترغب في قبولٍ فاعلٍ .. في قبولٍ نَشِط .. في قبولٍ مُجْتَهِدٍ .. في اضرام الجوع إلى المزيد من معرفة الله والاتّحاد به.
البعضُ يَتَغَنَّى بالنعمة كذكرى في حياته، بينما تريد النعمةُ أنْ تَصْنَع من كلّ لحظةٍ من لحظات مسيرتنا الروحيّة، كَشْفًا جديدًا منفتحًا على الحقيقة المطلقة التي لا تُسْتَنْفَذ، لا لنحيط بها، ولكن لنحيا في محيطها. النعمةُ ليست موطنَ الماضي الذي نرتمي في ذكراه دون الحِراك النشط، ليست مُخَدِّرًا لحاضرٍ خاملٍ يأبَى النهوض ليحيا إخلاء المسيح!! ليست تلك خبرة كلّ مَنْ تَغَنَّى بالنعمة الإلهيّة. النعمةُ حضورٌ دائمٌ، تبغي قبولاً دائمًا نشطًا لتأخذ مساحات جديدة من القلب والحياة وتُقَدِّمها بخورًا للعلي.
من جمالات تدوين القديس لوقا لمسيرة القديس بولس الكرازية في سفر الأعمال، ما ذكره عن أهل بيريّة الذين قبلوا الإيمان؛ إذ كتب عنهم: ”وَكَانَ هؤُلاَءِ أَشْرَفَ مِنَ الَّذِينَ فِي تَسَالُونِيكِي، فَقَبِلُوا الْكَلِمَةَ بِكُلِّ نَشَاطٍ فَاحِصِينَ الْكُتُبَ كُلَّ يَوْمٍ: هَلْ هذِهِ الأُمُورُ هكَذَا؟ فَآمَنَ مِنْهُمْ كَثِيرُونَ، وَمِنَ النِّسَاءِ الْيُونَانِيَّاتِ الشَّرِيفَاتِ، وَمِنَ الرِّجَالِ عَدَدٌ لَيْسَ بِقَلِيل.“ (أع17: 11-12).
إنّ كلمة ”أشرف“ في النصّ السابق هي الكلمة اليونانية (evgenesteri) εὐγενέστεροι والتي نجد لها ترجمة في الإنجليزية بمعنى noble أو noble-minded. إنّ النُّبل يتَّخذ معنًى جديدًا في هذا السياق. النُّبل الفكري أو الذهني يتمثّل في البحث الدائم عن الحقيقة، وألاَّ يَصْنَع الإنسان من تَحيّزاته الشخصيَّة واستحساناته الفكريّة أو خبراته الماضية حاجزًا أمام الحقيقة. لا يكفي أنْ نَقْبَل الكلمة؛ أي أنْ نقول إنّها صحيحة في ظاهرها ونكتفي بالكَشْف الأوّلي للحق، ونَهْجَع إلى مخادعنا، نُعَاقِر الكسل والخمول الروحي والفكري كالخمر التي تعمينا عن ضرورة اليقظة والبحث.
إنّ العقل النبيل هو العقل النشيط المُتَحَرِّك الفاعل المليء بالشغف والرغبة، إذ أنّ كلمة ”نشاط“ الواردة في الحديث هي (prothimias) προθυμίας وهي تُتَرجم: نشاطًا، أو استعدادًا readiness، أو لهفة، أو رغبة عارمة eagerness. إنّه العقل الذي يفحص، ويبحث، ويتساءل، ويُدَقِّق، ويَصْنَع المقاربات؛ إذ إنّ كلمة ”فاحصين“ التي جاءت في النصّ هي (anakrinontes) ἀνακρίνοντες والتي تحمل دلالة كلّ ما سبق.
إنّ العقل النبيل هو الذي لا يكتفي بذاته؛ إذ يقبل الكلمة بنشاطٍ، وهو يجلس تحت أقدام الحكمة مُتَعَلِّمًا وسائلاً وحائرًا ومتمخِّضًا بالشغف لمعرفة أكثر عمقًا، لا ليضيف إلى معلوماته الفكريّة المزيد، ولا ليتعالَى على مَنْ حوله، ولا ليكسب جولات جدليّة مع مَنْ حوله، ولا ليُرَسِّخ لذاته مكانًا ومكانةً أكثر تَمَيُّزا!! كلاّ ... إنّه يبحث كلّ يومٍ لأنّه جائعٌ كلّ يومٍ لمعرفةٍ قادرة أنْ تُجْلي الحقيقة أمامه وفيه، والحقيقة إنْ كانت حقيقة بالحق فهي قادرةٌ أنْ تجعل من وجوده مُتَجَليًّا بنورها. الحقيقة توقظ آذاننا الروحيّة كلّ يوم لنحتضن صوتها؛ ”يُوقِظُ كُلَّ صَبَاحٍ لِي أُذُنًا، لأَسْمَعَ كَالْمُتَعَلِّمِينَ“ (إش50: 4).
إنّ خبراتنا الروحيّة هامّة للغاية في لحظات ظلمات المسير؛ إذ نستحضر حقيقة النور الذي لامسنا ولامسناه، طوّقنا وعانقناه، انسكب علينا وتنسّمناه، ولكن علينا أنْ نُصَلِّي ونسعَى ليكون لدينا ذاك العقل النبيل غير المكتفي بالماضي؛ العقل الذي لا يشبع من معرفة الله ولا يشبعه سوى معرفة الله، العقل الذي يقبل نخس النعمة وينهض ليتحرَّك مع كلّ صباح جديدٍ نحو النور ..