يكتب جون كريسافجس John Chryssavgis في كتابه ”في قلب الصحراء“ In the Heart of the Desert قائلاً:
مادام الله هناك، في قلب معاناتنا، فليكن جلّ أملنا أن نبقَى هناك. علينا أن نبقى في القلاية، أو نمكث على الطريق، علينا ألا نترك رحلتنا أو نتجاهل الظلمة المحيطة. من اليسير أن نتغاضى عن أهميّة الصراع الذي نخوضه مفضلين عنه السلام الآمن والرّاحة، مبتغين أن نكمل مسيرتنا لنصل إلى مرحلة الحبّ قبل الأوان. من اليسير أيضًا أن نترك الأمور تمرّ بنا، إذ نسير دونما فحصٍ أو جهدٍ. بيدْ أنّ الصراع يعني الحياة. إنّه طريقة لنحيا الحياة في ملئها، ولا نتوقّف فقط ملاحظين إياها من بعيد. إنّ الأمر يتطلّب جهدًا عظيمًا حتى نُوَحِّد تلك الأجزاء المنقسمة والبائسة والوحيدة من ذواتنا لتكون كلاًّ واحدًا. في مثل تلك الأوقات، كان الصراع غير قابلٍ للتفاوض في حياة آباء الصحراء الروحيّة. إننا نجد أنّ آباء الصحراء وأمهاتها يتحدثون بصدقٍ لأنّهم في واقع الأمر بمثابة رفاق على الدرب. لم يدّعوا يومًا أنّهم أكملوا الرحلة، ولم يلمّحوا إلى أنّهم قد وصلوا بعد.
إنّ الحياة دعوة لنحياها، لا لنقضي حياتنا بين التردُّد والخوف أمامها، بين حساب النتائج (الواهم) وقلق الخروج من الدوائر الآمنة (التي نسجن أنفسنا فيها) حينما تدعونا للنزول لنخوض مغامرتها. ولكن هل نحن أحرار لنحيا الحياة كما هي أم إنّنا متفرجون من النافذة؟ هناك مَنْ يقف ليشاهد الأحداث من بعيد، من النافذة، وتمضي الأيام والسنون، ويموت، ولا يبقى على النافذة سوى هيكل عظمي، هو ذكرى لإنسان قرَّر ألاّ يحيا، ألاّ يكون، ألاّ يشارك، ألاّ يغامر، ألاّ يصير جزءًا من ديناميكيّة ملكوت الله.
إنّ الملكوت الإلهي لا يوجد به مشاهدون من بعيد، ولكن أعضاء فاعلون مشاركون، يحيون مخاض ولادة العالم لله، كما يحيون مخاض ولادتهم الروحيّة كلّ يوم لإعلانات ودعوات جديدة ومُتَجَدِّدة كلّ يوم. لقد وُلِدنا لجدّة الحياة يوم أعلنا في معموديّتنا أنّا قائمون في المسيح، ولكن تلك الولادة تتجدّد كلّ يوم من خلال القبول المستمر لنداءات الروح فينا والتي تدعونا لنكون لله. ولعلّ الإفخارستيا، من تلك الزاوية، هي إعلان مستمر ودائم أنّنا أولاد الله، من خلال تجديد اتحادنا بابن الله، لنكون فيه، على الدوام، أبناء للآب، لنحيا دعوتنا في الجسد الممتد عبر الزمان والمكان. ولكن، لماذا لا يقبل البعض أن يكون مشاركًا في الحياة وجزءًا من الحياة الحقّة؟ لماذا يرفضون أن يكونوا معولاً بيد روح الله ليُعَبِّد طريق العالم الصخري، كيوحنا السابق، ليأتي ويملك ابن الله على القلوب والأفكار والبيوت والعائلات والعلاقات من جديد؟
يبدو أنّ أولئك الواقفين على النافذة، قد أقنعهم المحيطون أن الحياة خطرة، ولكي يأمنوا من خطر الحياة عليهم ألاّ يُحَرِّكوا ساكنًا، عليهم أنْ يقفوا ساكنين تمامًا لئلا يتألّموا كما يتألم أولئك المصارعون على طرقات الحياة!
إنّ ما تشكّل عليه الوعي يتحوّل لنقاط قياسيّة لقياس الصواب والخطأ فيما بعد دون التفكير في مصداقية ما يقال، أو موضوعيّة ما يقال، أو حقيقة ما يقال!! يَعْمَد أيضًا المحيطون لتقديم العديد من الأمثلة لبعض ممن تركوا النافذة ونزلوا وقد نال منهم الألم والجهد والوجع!
نعم، صراع الحياة مؤلم، ولكنّ هذا ما يسمّى بالحياة! لا توجد حياة لدى أولئك الذين يشاهدون من بعيد. الخوف موت قبل أوان الموت. حينما أرسل الله تلاميذه ليطلقوا النور في العالم، كان يعلم كم من العقبات والمقاومات سيلاقون، ولكنّه حرّرهم من ذلك القيد الذي يقيدهم بالنافذة. لقد دعاهم ˮليذهبوا“ (مت28: 19)، لا ليبقوا بجوار النافذة يشاهدونه ويشاهدون العالم من بعيد! هو يدرك أنّ العالم سيحوم حولهم كالذئاب حول الحملان (لو10: 3)، ولكن الحمل المنتصر سيملأهم بالشجاعة ليكونوا شهودًا أحياء وأمناء وسط الذئاب عن نصرة الحمل. وستتحوّل الذئاب في الكثير من الأحيان إلى حملان كما كتب القديس كيرلس الكبير ذات مرّة. لقد أراد الربّ يسوع تلاميذه أحياء لأنهم يتبعون الحيّ إلى أبد الأبدين؛ ˮإِنِّي أَنَا حَيٌّ فَأَنْتُمْ سَتَحْيَوْنَ“ (يو 14: 19)، من يَتَّحِد بالحي سيحيا، ويشهد لحياة ابن الله التي أحيته من بعد الموت. لقد أراد الربّ يسوع تلاميذه شركاء في إطلاق الحياة على القلوب الميّتة والنفوس المقبورة والأفكار التي يعبث بها دود الأرض! نعم، المسيح يريدنا أحياء، والحياة تحدٍّ، مغامرة، قد نُجرح بها، ولكننا سنتعرَّف على طعم الانتصار بين دروبها. قد نشعر بالوحدة والفشل في بعض الأحيان، ولكن بدون تلك المشاعر لن ندرك معاناة العالم الذي علينا أن نكون له يدًا ممدودة من عالمٍ آخر. لا يريدنا الله مسوخًا ميتة باهتة لها شكل الحياة! لا يريد البسمات الشاحبة؛ لأنّها خارجة من قلبٍ لم يتذوَّق الحياة! هو يريد حياة مُتَفَجِّرة من خياراتنا، من مواقفنا، من صمودنا، من التزامنا، من شركتنا بعضنا البعض، من مجاهرتنا بالحق دونما خوف، من ألمنا الخلاّق، من صرخاتنا التي تتحوّل إلى علامات على الطريق لمن يأتون بعدنا. يريدنا أن ننزل لنرافق الأضعف، والأدنى، لنكون صوتًا للذين لا صوت لهم، لنحارب من أجل الذين امتُهِنَت كرامتهم؛ لنقدِّم خبز الشركة لأولئك الجائعين إلى القيمة والتقدير والحبّ. هو يريدنا أن ننزل إلى الحياة لنُحَطِّم أوثان الطبقيّة والعصبيّة والقبليّة والعرقيّة والتمييز التي انتزعت الكرامة الإنسانيّة من البعض، هو يريدنا فمًا له يؤكّد من خلاله لكلّ إنسان أنّه مخلوق ذو كرامة، أنّه على صورة الله. هو يريدنا أن ننزل لنُصَحِّح صورته التي تشوّهت في العالم. هو يدعو أولاده: هلاّ نزلتم للآخرين لتُصْلِحوا صورتي في أذهان العالم؟ هلاّ أعلنتم لهم أني لست هذا الإله القاسي البعيد الصامت الأصم السادي المتشفِّي الذي يتصورونه؟ هلاّ أعلنتم لهم أني الحبّ؛ الحبّ القادر .. الحبّ الشافي .. الحبّ المحرّر .. الحبّ المغيّر .. الحبّ الغافر .. الحبّ المتمهّل .. الحبّ المترقبّ .. الحبّ الأمين .. الحبّ العادل .. الحبّ الذي لا يغلق ذراعيه أمام أي إنسان يأتي إليه؟؟
كم يفرح قلب الآب حينما يرى أولاده يمخرون العباب شارعين ألويّة يسوع المخلِّص وسط العالم دونما خوف. أولئك يثقون في الملك، لذا يبشرّون بالملكوت. هم يحبّونه أكثر من ذواتهم، يغامرون من أجله لأنّهم بالفعل قد ربحوه، وصار لهم أي ربحٍ آخر من أي نوعٍ آخر هو خسارة (في3: 7). أولئك لا يخشون تهديدًا ولا وعيدًا لأنّهم ماتوا عن الخوف، وقاموا في مُلك أبيهم، فما الذي يمكن أن يخيفهم فيما بعد؟! وما الذي يمكن أن يَلمع في أعينهم من العالم فيما بعد. هم جنود جسورون للحبّ والحقّ والحريّة. هم خليط من الرجال والنساء، الأطفال والكهول، الفتية والفتيات. هم ألوان نابضة بالحياة قد انسكبت تحت فرشاة الملك، تدعوه: هيا ارسم بنا ملكوتك في العالم. لم يعودوا يرسمون عوالمهم الخاصّة، فكلّ ما يملكون يسكبونه تحت أقدام الفنان الأعظم، ليُحيي العالم بألوان النور والحق والحرية والحياة والجمال، وهم يثقون به.
إنّ العالم يحيا أمام النافذة، خائفًا، مرتعشًا، متردّدًا، متحيّرًا، قلقًا، واهمًا، ويبقَى دور أولاد الله الحقيقيين هو طمأنة الواقفين أمام النافذة، لينزلوا إلى طرقات الحياة، برفقة يسوع. في معيته، لن يكون هناك خوف فيما بعد؛ فـ ˮالْمَحَبَّةُ الْكَامِلَةُ تَطْرَحُ الْخَوْفَ إِلَى خَارِجٍ“ (1يو4: 18) ... نعم المحبّة قادرة أن تلقي بالخوف إلى خارج .. تدفعه دفعًا بعيدًا عن القلب، وتملأ القلب بالحريّة ليشهد لما شاهده يتحقّق في عالمه من حريّة حقيقيّة وليست زائفة ...
إنّ الكاهن يبارك الشعب في نهاية القداس وينادي قائلاً: ”امضوا بسلام“. إنّه يطلقنا مُحَمَّلين بسلام الله للعالم. لا يدعونا للبقاء ولكن للانطلاق. لا يدعونا للانطلاق بذواتنا ولكن بسلام الله.
إنّ الله ينتظرك ليجدِّد عالمك، ويجدِّد بك العالم برفقة إخوتك... إنّه يدعوك لتقبل دعوته ليدخل إلى عالمك؛ لينزع الأقنعة الزائفة التي تقيّد حركتك، وليكسِّر الحصون التي بنيتهما حول ذاتك خوفًا من العالم، وطمعًا في تقدير العالم لك ... إنّه يدعوك للحياة وترك النافذة ... هلاّ قبلت الدعوة؟