نقرأ في إنجيل القديس لوقا (4: 24-30) عن تعجُّب الجموع في الناصرة من الربّ يسوع؛ من كلماته وإعلاناته الصريحة والحاسمة والصداميّة والخطيرة في الوقت نفسه. كانت العادة أن تُقْرَأ أسفار التوراة، وجزء من أسفار الأنبياء، وكانت العادّة أيضًا أن يُكَرَّم البعض من الحضور بقراءة الأنبياء، إذ أنّ قراءة التوراة مخصّصة لرئيس المجمع عادةً، وهو نصّ يقرأه شخص واحد فقط، بينما قراءة الأنبياء كان يمكن أن يقرأها من 3 – 7 أشخاص حسب الاحتياج.
وقف يسوع في المجمع ممسكًا بدرج سفر إشعياء، وصولجان التفسير، وكانت كلمات النبوّة الخارجة من الدرج ترسم ملامحه، تجسِّد حضوره، تعلن عن فعله، تبشِّر بقدرته، وكأنّ كلّ كلمة محمَّله بصدى يسوع الناصري. وجاء دور يسوع ليعقِّب على النبوَّة، فأطلق كلماته التي توافق على تلك العلاقة الشرعيّة بين كلمات النبوّة القديمة وشخصه الحاضر الآن. وهنا بدأ التعجب الممتزج بالدهشة من الجموع الحاضرة لعبادة يوم السبت في المجمع!
إن هناك نوعان رئيسيان من التعجُّب؛ تعجُّب الإعجاب، وتعجُّب الحيرة. تعجُّب الإعجاب يأتينا حينما نصادف أمرًا مبهجًا، أو شخصًا محبوبًا، أو فعلاً مؤثِّرًا. ولكن لم يكن هذا هو النوع من التعجُّب الذي التقطت به الجموع ما أعلنه الربّ يسوع في المجمع في الناصرة. كان تعجُّبهم واندهاشهم ناتج من ربط الشخص الماثل أمامهم بتاريخه المألوف لديهم؛ بسنوات طفولته وصباه. إن هذا النوع من التعجُّب ليس مركزه الفعل الذي أمامنا ولا الشخص الذي أمامنا، ولكن التوقّع الذي يسكن فينا.
من أخطار هذا النمط الكاشف من الدهشة والتعجُّب هو أنّه مُعَطِّل! فحينما نحاصر الشخص بماضيه، نمنع عنه حريّة الانطلاق، وتُختن أعيننا عن رؤية ماهيّته الحقيقيّة. في الكثير من الأحيان لا نرى البشر ولا نتعامل معهم ككائنات تنمو، ولكن ككائنات أسيرة مقيَّدة بتاريخها القديم وخبراتها في الماضي. يكفي أن يُطْلَق لَقَبٌ على أحدهم لقولٍ ما أو فعلٍ ما، ليُصبح مُلْتَصِقًا به وكأنّه كينونته التي لا تتغيَّر. ألم تكن المرأة الخاطئة تعرف بأنّها الـ ”خاطئة“! ألم يكن العشّار يعرف بالـ ”عشّار“ ألم يكن يسوع نفسه ملقّب بـ ”الناصري“ تلك المدينة التي لا تُنْبِئ بصلاحٍ يخرج منها. إنّنا لا نقبل بأنّ نرى الإنسان في رحلته ينمو، وينضج، ويتغيّر، ويحصل على ملكات لم تكن لديه، ويُثَقَّل بدعوات لم تكن في خاطره ولا خاطر من حوله. كثيرًا ما يكون جمودنا الفكري والروحي والإنساني والدعوي والخدمي، الداخلي، هو العدسة التي نرى بها الآخرين. إن كنت لا أتغيَّر ولا أنمو فلِما أرى الآخرين متغيرين ونامين؟!
إنّ إعجاب الحيرة يدين صاحبه بدرجة ما لأنّه يكشف أنّه قد يعاني من مرض تصلب الملكات النقديّة والتحليليّة التي تساعده أن يُحلِّل الأمور بشكلٍ صحيحٍ وموضوعيٍ بعيدًا عن حالته هو وخبرته هو، وما يدور في عالمه هو.
وهنا نسأل؛ أليس الكثير من أحكامنا هي انعكاس لما نعانيه نحن في بواطننا ... في ليالينا ونحن وحدنا ... في لحظات الإخفاق المتكرِّرة ... في آمالنا المهدورة ... في جراحنا النازفة ... في رغباتنا التي لا تتحوّل إلى أفعال أبدًا إذ يفصل بينهما محيطٌ متّسع ممتد بلا نهاية من الإرادة الخائرة والخوف العميق!
أليس رفضنا للبعض هو صرخة أننا مرفوضون في أعين أنفسنا، وإن كان حولنا العشرات من الأشخاص الذين يبدون لنا أنّنا مقبولون ...
أليس حكمنا الجائر على الآخرين هو فضحٌ للموت الداخلي فينا؛ فالحي يرى الآخرين كائنات حيّة متحرّكة ناميّة، بينما الميّت يرى الآخرين قبورًا لا تعكس حياة، فهم شواهد قبورٍ تحكي عن ماضيهم لا أكثر ولا أقل ...
لم يكتف المجتمعون في المجمع اليهودي في الناصرة بإطلاق سهام التعجُّب الحائرة والناقدة لابن يوسف! ولكنّهم بدأوا يرفعون من سقف النقد والتشكّي والتذمُّر. كانت حجّتهم أنّ يسوع ليس مخلصًا ولا أمينًا تجاه بلدته وأقاربه وأهله ومعارفه وبني جلدته، إذ يجترح الآيات والمعجزات التي سمعوا عنها في كفرناحوم، بينما كان الأجدر به أن يجعل من بلدته مقرًّا لتلك الخدمة التي تأتي بالسمعة الحسنة وتجلب الجموع والتقدير والمال لبلدتهم الصغيرة. لم يكونوا يسألونه أن يقوم بالخير في مدينتهم للمحتاجين، وإلاّ كان تفاعل مع هذا الأمر؛ فيسوع نبضٌ دافقٌ من الخير يبعث نورًا وأملاً وشفاءً أينما حلّ. ولكنّهم أرادوا خيرًا أيديولوجيًّا، خيرًا ممذهبًا، خيرًا انتقائيًّا، خيرًا يكرِّس لرفعة الفرد على أخيه، والبلدة على جارتها، والموطن على تخومه، والعرق على باقي الأعراق!
ولكن هل يمكن أن يرضى المرسل من الآب لخلاص العالم، لكلّ إنسان، ليعلنه ابنًا للآب، بخيرٍ موسومٍ بهذا الفيروس المحمَّل برائحة الموت والسقوط؟!
كلّ خير أيديولوجي ليس خيرًا
كلّ خير انتقائي ليس خيرًا
كلّ خير عرقي ليس خيرًا
كلّ خير ممذهب ليس خيرًا
كلّ خير ملوّن بلون الامتياز عن آخرين ليس خيرًا
كل خير استعلائي ليس خيرًا
كلّ خير استرضائي ليس خيرًا
كلّ خير استهلاكي ليس خيرًا
تلك كانت أزمة شجرة معرفة الخير والشر؛ فهي تقدِّم لنا أشباه الخيرات. هي تعزل ما بين الفعل والنيّة والفكرة الرابضة والنتيجة التالية لتطلق المسمَّى الخيِّر على ما يَنْتُج عنه فائدةٍ لعرقٍ أو جماعةٍ أو مذهبٍ أو وطنٍ من دون آخرين، بل وضدّ آخرين.
الخير خيرٌّ لأنّه متجِّردٌ من النفع، وأعمى عن المصلحة، وغير مدفوع بأيديولوجيّة، ولا مُرغَّب بنتاج قومي أو عرقي يكرِّس لعزلة الإنسان على أخيه.
لم يكن يسوع يرضى بأن يشارك هذا الفساد المقنَّع بإدّعاء الخير ...
كانت حجّته أنّهم لم يقرأوا تاريخهم، لم يتعرّفوا على الإله الذي يدّعوا أنّه لهم إلهًا من باقي الشعوب. كانت إمرأة صرفة صيداء الغريبة عن إسرائيل هي من لجأ إليها إيليا، وأحياها، من دون الأرامل التي كانت تملأ جنبات إسرائيل في زمن إيليا. وكان نعمان السرياني هو الغريب الذي طُهِّر من برصه في زمن إليشع النبي، بالرغم من احتشاد الكثيرين على أطراف مدن إسرائيل من البُرص.
إنّ خيرًا عرقيًّا لم يكن أبدًا هو خير الله الآب، ولا خير الابن المرسل منه ...
إنّه الخير الفاسد الذي رأته عيونهم من انتقاء بعض التعاملات الإلهيّة مع شعب بني إسرائيل، ليرسموا صورة أنّ الله هو إله الخير لليهود فقط، ومن ثم يمكن أن تستخدم نفسه الحجة للتباهي على الجار داخل نفس الحظيرة اليهوديّة، إذ أنّ الله انتقائي بطبعه بحسب هذا التصوُّر الفاسد!
رفض يسوع أن يشاركهم في جريمة الخير المؤدلج، فرفضوا أن يبقوه بينهم، واستشاطوا غضبًا، وحاولوا أن يغتالوه بأن يلقوا به من على جَرْفِ المدينة، ليَسْقُط صريعًا، ويموت معه صوته الذي يدين فساد تمذهبهم!
ولكن صوت الخير لا يموت، والابن يبقى إلى أن ينصر الحبّ على الصليب، ليقيمه في القيامة ويلبسه ثوبًا لبنين أعدّهم لينادوا به ...
إنّه صوت الخير الصادر عن شجرة الحياة التي يأكل منها كلّ من يغلب بالابن الفساد وشبه الفساد الذي في العالم ...