حينما سألت يومًا أحد الذين آمنوا بالمسيح عن كيفيّة إيمانه بالأسرار كالتجسُّد والثالوث والقيامة وغيرها، أجابني: من خلال الموسيقى! (إذ كان عازفًا). نعم لقد دَرَّبَته الموسيقى على وجود السرّ في الحياة، وعلى احترام السرّ، وعلى التعامل مع السرّ بالمنطق، ولكن المنطق الجمالي.
لقد نشر ياروسلاف بيلكان Jaroslav Pelikan كتابًا بعنوان ”باخ بين اللاهوتيين“Bach Among the Theologians . يبدو لنا لأوّل وهلة أنّ العنوان صادم إذ إنّ اللاّهوت والموسيقى فرعان لا يلتقيان في نظر البعض، إلاّ أنّ المشترك بينهما هو الإيمان بالسرّ والجمال والمعنى الأبعد من المنطق المادّي. لقد كتب ألبرت شفايتزر Albert Schweitzer عن باخ وإسهاماته من خلال الموسيقى الدينيّة التي كان يؤلّفها في الكتاب الذي صدر عنه في عام 1966 قائلاً:
إنّ باخ بمثابة لاهوتي؛ إذ أسهم في تقديم العقيدة Credo. لقد أدرك ما الذي كان يدور ببال الآباء الناطقين باليونانيّة حينما تحمّلوا الآلام من أجل إثبات شخص المسيح كإله، محافظين في الوقت ذاته على التعدديّة الأقنوميّة. لقد حوّل باخ النصوص إلى معانٍ موسيقيّة، وليس فقط إلى نغم موسيقي. لقد كان المرتلون ينشدون نفس النوتة الموسيقيّة، ولكنّ باخ استطاع أنّ يجعلهم يعبرون عن أشياء مختلفة. كانت الأصوات تتوالى وتتالي في روابط منتظمة ومنضبطة وكأنّها تشير إلى الميلاد الأزلي للابن من الآب. لقد أثبت باخ أنّ العقيدة يمكن التعبير عنها بطريقة أكثر وضوحًا وأكثر امتاعًا من خلال الموسيقى عن القوالب اللفظيّة المجرّدة!
الوجدان المعاصر يحتضر في عالمنا الشرق-أوسطي. الطبيعة بألقها صارت باهتة في مدنٍ تَكَفَّنَت في الأتربة والدُّخان والتلوُّث. أناشيد عصافير الصباح، وإيقاع الشجر المتمايل على النسيم اختفَى وسط الضوضاء والصَخَب المحيط. لم يعد باستطاعتنا أن ننعم بلحظات تأمل في زرقة السماء ولا حركة السحب السابحة في الأعالي. الجمال تراجع وسط فحيح القبح الذي يزداد يومًا بعد يوم، ملقيًا بسمومه في الطبيعة وفي القلوب! في كلّ هذا يفقد الإنسان الشعور، يفقد مستقبلات الوجدان التي تُتَرجِم الجمال إلى نبضة تسبيح قلبيّة لذاك المبدع. قد نكون في العصر الحالي وصلنا إلى القمر وعلى أعتاب غزوات فضائية خارج المجرَّة، ولكننا أصبحنا متغربين عن الجمال المخلوق حولنا والذي هو في متناول بصائرنا.
ولكن ما علاقة هذا الأمر بحياتنا المسيحية؟
هناك نزوع أحيانًا لتجريد الإنسان المسيحي إلى أن يصبح مجرّد فكرة، ومادامت كانت الفكرة منضبطة كان ذلك تعبيرًا عن إنسانيّة / مسيحيّة منضبطة. يبدو أنّ هناك عنصرًا غائبًا عن تلك المعادلة. الفكرة بنت العقل، ولكن الإنسان ليس تكتّلاً من الخلايا العقليّة فقط، إنّه إنسان، والإنسان له وجدان. ما يُسْتَبْعَد من الإنسان يُصْبِحُ نقطةَ ضعفٍ في تكوينه المسيحي. إن غاب العقل، وأصبحت الحركة المسيحية هي حركة مشاعر وأحاسيس ووجدان فقط، صار التكوين المسيحي مُشَوَّهًا؛ فالعقل ضابط الوعي، وإن غاب الضابط عن المشهد، أصبح الوعي مُخْتَرَقًا من الأفكار المحيطة دونما تمييز، وهو ما يشوِّه التكوين المسيحي. وفي المقابل، إن غاب الوجدان، غاب الشعور بالسرّ، وغاب التلامس مع الجمال الإلهي، وغابت نبضات الحبّ الخافقة التي تُلَطِّف من مسيرة الإنسان على الطريق. ويصبح الإنسان أشبه ببناء هائل ولكنّه بلا حياة.
حينما نستخدم كلمة منطق، نقصد في الكثير من الأحيان أن نُعَبِّر عن البناء الفكري المحكم المتناغم. هذا صحيح. إلاّ أنّ هذا التعامل مع المنطق يفتقر إلى عنصر موجود على أرض الواقع في حياتنا الإنسانيّة، إنّه السرّ. السرّ مرتبط بالرهبة والحيرة والشعور بالجمال والتلامس مع معانٍ خاصّة في خبرتنا وخبرات آخرين. السرّ مرتبط بالأمل والحلم والطموح والخيال والإبداع. السرّ من مكونات الحياة الإنسانيّة بوضوح. لذا فدخول السرّ في بنية المنطق الإنساني في التفكير ضروري إن أردنا نَسَقًا، ليس منضبطًا وحسبْ، بل نسقًا شموليًّا مُعَبِّرًا عن الحقيقة.
إنّك حينما تقف أمام لوحة، أو تستمع إلى مقطوعة موسيقيّة، ما الذي يخلّق هذا الأثر العميق في داخلك؟ وهل يمكننا أن نعتبر هذا التأثير مُدْخَلاً غريبًا على تكوينك الإنساني؟ بالطبع لا؛ إنّ تذوُّق الجمال هو إدراك التناغم، والتناغم من معالم المنطق المنضبط. علينا، إن أردنا منطقًا مُعَبِّرًا عن الحياة الإنسانيّة بأفضل صورة، أن نحترم السرّ، ونحترم الجمال، ونترك لهما مساحة في تكويننا الإنساني، ومن ثمّ المسيحي.
إنّ غياب الوجدان يشوّه التكوين المسيحي ويحوّله إلى آلة تنتج أفكارًا جافّة مجرّدة بلا حياة. لكي يتقدّس الإنسان بالتمام، من الضروري أن يحيا القداسة العقليّة والوجدانيّة على حدٍّ سواء. إنّه ليس صراع الفكرة والشعور، فالوجدان يفكّر بالجمال، والعقل يشعر بالأفكار. إنسانيتنا تتصالح حينما يتصالح القلب مع العقل، والفكرة مع النبضة الجمالية، والتصوُّر مع الصورة، والواقع مع القيمة والمعنى الرابض خلف الواقع.
من المخاطر الروحيّة هي أن نحيا ثنائيّة داخلية متغرِّبة أو متصارعة؛ فالخطيئة من أحد الأوجه هي قُبح وتشوُّه وتصدُّع في التكوين الإنساني / الطبيعي. إنّ التكوين الإنساني مخلوق بالأساس ليحيا غاية مُنْجَمِعة recapitulated في الله ولله. الفجوة التي يخلّقها العالم فينا بين العقل والقلب، يأتي الروح ليمحوها، ليُعَرِّفنا على ذواتنا كما خُلِقَت، واحدةً؛ حتى يمكنها أن تتحوّل بكليتها إلى الله.
من هنا كانت ضرورة الجانب الجمالي في العبادة. إنّها أشبه بقرعة على الوجدان ليتذوّق. كلّ سحر العبادة الجماليّة من رسومات وأنغام وتشكيلات معمارية وشموع خافتة والتي تلقي بظلالها على الجدران والوجوه ما هي إلاّ محاولة إيقاظ للوجدان المحتضر ليتذوّق الله، ليهتف له بملء مشاعر الشغف والحبّ والشوق أنّه جميلٌ وهو خالق الجمال المحيط؛ فالسماوات تبوّق مذيعة مجدًا إلهيًّا (انظر: مز19: 1).
تساعدنا العبادة الجمالية أيضًا على التعرّف على الله كمصدر التناغم في الكون؛ فالجمال تناغم، ومن ثمّ يتخلق لدينا مُرَشِّح filter ضد كلّ نغمة نشاز في الطبيعة أو في السلوكيات أو في العلاقات أو في تقديم صورة عن الله.
إنّ السلام shalom هو التحية العبرانية والتي نجدها بوفرة في العهد القديم والعهد الجديد، وهي تعني في الوعي العبراني حالة التناغم Harmony. حينما نلقي بالسلام على أحدهم فإنّنا نتمنى له أن يحيا في تناغم داخلي وخارجي. نريد له أن يدرك سرّ الجمال في الحياة والتي تقوده إلى رؤية اليد الصانعة لهذا التناغم المبدع في الكون والحياة والإنسانيّة.
على الجانب الآخر يمكننا أن نُعَرِّف القديس بأنّه كائن جمالي استطاع أن يُخْرِج جمالاً من القبح المحيط. فمثلاً المتضع هو ذلك الإنسان الذي استطاع أن يرى في كلّ شخص يتعالى عليه ويحقّر من شأنه، وعاءً يحمل له فرصة ذهبيّة لتجربة فريدة؛ وهي خبرة الاتّضاع. إنّه لا يتوقّف عند قبح أخلاقيات الشخص المقابل له، ولكنّه يرى جمالاً يكمن في إمكانيّة تواصل عميق مع الله من خلال ما يحدث.
قيل عن أحد الإخوة في أحد الأديرة قديمًا إنّه حمل حاجاته، وهمّ بالخروج من الدير. وحينما سأله الأب المدبّر عن سبب ذلك وهل كان نتيجة مضايقات من الإخوة، أجابه إنّ السبب هو عدم وجود مضايقات، وهو ما يُعَسِّر عليه فرصة اقتناء الفضيلة؛ فالفضيلة تنبت من صخور التحديات المحيطة. هذا الأمر تمامًا أشبه بنحّات يريد أن ينحت قطعة فنيّة ولكن على طين نيئ! لن يستطيع ذلك! إنّه يحتاج إلى صخرة صلبة ومجهود كبير ليخرج قطعته الفنيّة. من هذا المنظور يمكن أن نتعرّف على ملمح من ملامح القداسة من خلال إمكانيّة استخراج الجمال من القبح.
رؤيّة أحباء في المضطهدين .. المغفرة للمسيئين وهم في عمق إساءاتهم .. الصبر على تحديات الحياة اليوميّة .. القدرة على الشكر وسط الافتقار إلى الضروري .. الثقة في الله في أجواء فقدان الأمان العامّة .. الصلاة رغم عدم وجود استجابات منظورة ومدركة وملموسة .. الصبر بالرغم من فشل العديد من المحاولات السابقة ..
كلّ تلك الأوجه للقداسة ما هي إلاّ قدرة على استخراج جمال من القبح.
حينما نتوقّف أمام دعوة المسيح لمتى جابي الضرائب، لا يمكننا إلاّ أنّ نرصد عينًا ترى جمالاً خفيًّا خلف تلك الطاولة المكتظة بالأموال. وحينما نراه يعيد تجديد الثقة في بطرس من بعد الإنكار المخجل على نغمات صيحات الديك، نرى عينًا ترى ما لا نراه في الظاهر. هذا هو لبُّ الفن.
على الجانب الآخر، نجد أنّ استخراج الجمال من أداة الموت هو تجسيد لتلك الحقيقة؛ فالصليب الذي يبدو أنّه جهالة للبعض وأداة موت قبيحة لآخرين، بالمسيح، صار جميلاً، صار قوّة الله (1كو1: 18). من لا يرى في الصليب جمالاً دلّل بذلك أنّ عيناه مازالت مختونة عن الجمال. إنّه لم يصرّ فنّانًا بفعل الروح بعد.
إنّ دعوتنا المسيحيّة هي أن نسير في الحياة بقلب الفنان وشغفه وإصراره على التحدّي. رجاؤنا كطموح الفنان أن يرى اكتمال التجربة الفنيّة إلى منتهاها. شغفنا وجهادنا كشغف الفنان واجتهاده كلّ يوم في استخراج جمالاً من القبح أو معنىً من اللاَّمعنَى. إنّ مسيرتنا المسيحيّة مسيرة جمالية لأنّها فيض من جمال الخالق الذي مرّ بنا في وجه يسوع وقد درّبنا على الانصات إلى نغمات الجمال في كلّ شيء وفي كلّ أحد وفي كلّ موقفٍ. يومًا وراء يوم نكتشف وجهًا ليسوع في عالمنا فنكتشف جمالاً وسط ما بدا لنا قديمًا قُبْحًا. إنّه يُطَعِّم الكون كلّه بسرّ الجمال الذي لا يسبر له غور.