من الأزمات التي نعاني منها باستمرار هي ردود الأفعال السريعة والمتوتّرة والانفعالية دون التوقّف لبرهة للتفكير بعمق وتحليل الموقف أو الخطاب أو الحدث. هذا أمرٌ مفهوم لمجتمع تتنازعه الاتّجاهات والتوجهات ولا يخلو يوم من حدثٍ جديد يكون بمثابة موجة عاتية تصدم السائرين على الشطّ! ولكن أعتقد أنّه آن الأوان لنُفَكِّر قليلاً ونُقَيِّم ونُحَلِّل ما يحدث قبل أن نُبدي رأيًا أو نتّخذ موقفًا أو ننفعل احتجاجًا أو نُقَرِّر الاحتجاب أو ننادي بنتائج غير مدروسة وغير محسوبة أو غير مفيدة.
من اللافت للنظر أنّ الكثير من المواقف أو التصريحات أو الأحداث تجاه المسيحيّة أو المسيحيين يكون مدهشًا وصادمًا لنا! كيف نندهش وقد سبق أن درّبنا الربّ يسوع على الفكر الذي يضمره العالم من جهتنا؟ لقد قالها بوضوح دونما مواربة ولا حتى احتجاب في الرمزية. لقد أكّد على ضيق الزمان الحاضر، وأنّ الاضطهاد والملاحقة ستكون من نصيب من يسيرون خلفه .. إلخ. فلِمَ الدهشة؟ بل لقد خان المسيح واحدٌ من تلاميذه، وهو الأمر الذي يساعدنا على احتمال الإساءة من أقرب المقربين؛ إذ لا نندهش من هذا الأمر؛ لأنّ حياة المسيح امتّصت تلك الدهشة مسبقًا لتبقي لنا التوقّع لكلّ المعوقات والمضايقات على الطريق. إذًا لا مجال للدهشة من تصريح هنا أو خطاب هناك ... فهذا نعلمه مسبقًا ... يتغيّر اللاّعبون على مسرح الحياة والموقف من المسيح وأتباعه واحد ... وحينما نسمع مثل تلك التصريحات أو نطالع تلك الحملات ... يمكننا أن نبتسم ونحن هادئون، ونقول: ليس هذا بالأمر الجديد ... ما كان هو ما هو كائن، وما سيكون ... تتبدّل الأزياء والأماكن والأشخاص والملابسات ويبقى جوهر التحدّي واحد للمسيحيّة عبر العصور ...
لقد أعلن أحدهم منذ فترة وجيزة أنّ المعتقد المسيحي فاسد ... وهنا لست في مجال ذكر الأسماء ولا الألقاب، لأننا لا يجب أن نُعنى بقائل القول قدر الاهتمام بموضوعيّة القول والحجّة التي يحملها القول.
حسنًا ... دعنا نفكِّر فيما قال دونما انفعال أو حميّة زائدة أو رغبة في التشفّي ممّن جرح ما نؤمن به. علينا أن نتذكّر أنّ ما يغلب العالم هو إيماننا، وإيماننا لا يجب أن يكون هشًّا يُدْهَش وينفعل من الخطاب العدائي! كلاّ، الإيمان يجب أن يكون ثابت الخُطى حتى يستطيع أن يثمر محبّة مدهشة وغفرانًا مدهشًا في أصعب الأوقات وفي الظروف غير المواتية.
هنا ونطرح على ما قيل السؤال التالي: كيف نتعرّف على فساد المعتقد (الجمعي)؟ وهل المعتقد الفاسد هو المعتقد المُفْسِد أم إنّه فاسدٌ أيديولوجيًّا فقط (فاسد في ذاته وليس في أثره)؟
إنْ كان فاسدًا أيديولوجيًّا يكون الحُكم بفساد مُعْتَقد الآخر هو رأيٌ شخصيٌّ يُعَبِّر عن فكر صاحبه فقط أو رأي جماعته فقط، ولا يجب أن نتوقّف عنده كثيرًا، ففي كلّ مجتمعٍ طيفٌ من الآراء من الأكثر تطرّفًا إلى الأكثر تسيّبًا ... التعامل هنا يكون بمقدار الضرر الواقع فعليًّا من مكانة قائل القول وتأثيره ... وهذا شأن القانون ...
ولكن إنْ كان المُعْتَقَد الفاسد هو المعتقد المُفْسِد؛ كيف يمكننا تقييم التأثير الفاسد للمعتقد؟
أعتقد أن ذلك يمكن من خلال تقييم السلوك الجمعي لأصحاب المعتقد ... وهنا علينا أن نُفَرِّق بين السلوك الجمعي (سلوك الجماعة كلّها وما هو مشترك بينها) والسلوك الفردي (الذي يُعَبِّر عن وجهة نظر شخصيّة في الحياة) ...
وهذا ينقلنا إلى السؤال التالي: كيف نُقَيِّم السلوك الجَمْعي في المجتمع دون التعرُّف على دقائق المعتقد المُتَخَصِّصة؟
لقد أوضح المسيح أنّه من الثمرة يمكن أن نعرف الشجرة... ولذلك يمكن أن نقيّم (بشكل أوّلي ومبسَّط) تأثير المعتقد في المجتمع من خلال عدّة زوايا منها على سبيل المثال لا الحصر:
القدرة على التعايش / التوافق / التناغم / التحاب (مع الاحتفاظ بالخصوصيّة والتمايز وليس التميُّز) مع الأضعف / الأقل في المجتمع / الجماعة.
القدرة على الإشعاع الإيجابي في المجتمع، وذلك من خلال طريقة الكلام ومفردات التواصل، القدرة على إقامة حوار dialogue وليس مونولوج monologue، أن يكون منظور التفكير العام بنّاء، سمو المبادئ الحياتية وتطبيقها على أرض الواقع، اتساق المواقف بالرغم من تبدُّل الأطراف الأخرى، إنسانيّة التعامل، احترام القانون في السرّ قبل العلن، احترام مفهوم العدالة والاجتهاد في تفعيله في أصغر الأمور، تقدير العلم ومنحه المساحة الكافية من الإبداع، إفساح المجال للأصغر والإيمان به ومساندته ... إلخ.
القدرة على المغفرة (الشخصيّة والجمعيّة) لمن يُسيء (شخصيًّا / جمعيًّا / تاريخيًّا) ...
إنّ المعتقد الذي يدعو ويرسّخ لمثل تلك القيم لا يمكن أن يكون فاسدًا (أي مُفْسِدًا) بأي حالٍ من الأحوال ... قد تختلف معه ... هذا حقّك! ولكن لا يمكن بالعقل والمنطق والخبرة نعته بالفاسد، وإلاَّ كان هذا حُكمًا على مَنْ يَتَبَنّى تلك الآراء بفساد الاستدلال وذلك لأنّ المنطق هنا يعاني من الاعتلال والقدرة على رؤية صحيح الواقع بها اختلال ...