من أكثر الشخصيات ارتباطًا بالوجدان المسيحي القبطي هو شخصيّة الشهيد أبّا مينا، والذي وُلِدَ عام 285م في منف وهي جنوب القاهرة، في ضواحي الجيزة، في قريةٍ هي على الأرجح تُسَمَّى اليوم: ميت رهينه. لا يمكن أنْ يُنْكِر أحدًا أنّه بالفعل كان حضورًا استثنائيًّا في التاريخ المسيحي، ومسيحيًّا ذا بصمة صادقة بالشهادة إلى منتهاها لمَنْ أحبّه. إلاّ أنّ الارتباط الشعبي به، على الأرجح، يرجع لكونه قد جَمَعَ في حياته بين عنصريْن قد شَكَّلا الوجدان القبطي منذ القِدَم، ألاَ وهما التعبُّد في البريّة والشهادة.
بالتأكيد يَعْرِفُ الجميع ممّن طالعوا سيرته الأخّاذة أنّ أبّا مينا قد تَرَكَ العمل بين صفوف الجيش آنذاك تاركًا معارك العالم المُشَبَّعة بالدماء ليُكَرِّس حياته لمعركةٍ أخرى قد تيقَّظ على إدراكها مُبَكِّرًا في حياته (في نهاية العَقْد الثاني من عمره على الأرجح). تلك المعركة التي حينما يبدأ الإنسان بإدراكها لا يمكنه أنْ يحيا فيما بعد بقانون الحياة المعتاد. لا يمكن لمَنْ أَبْصَرَ ما يجري خلف المنظور؛ الوجود الحقيقي والأصيل في النور، والوجود الأليم في الظلمات الدهريّة بعيدًا عن دوائر النور، أنْ يُكْمِلُ حياته كأنّ شيئًا لم يكن.
حينما ننظر إلى بعض سير القديسين وحيوات الآباء وبطولات الشهداء قد نَتَعَجَّب من تلك الحركة، التي يصفها البعض بأنّها تَهوُّرٍ إذ هي ضدّ المعتاد، التي قد قرّروا أنْ يحيوها أو بالأحرى أنْ يموتوها لينالوا حياة! إذ لا يمكن لأعينٍ غارقةٍ في الحياة الاعتياديّة وأسيرة دوائر اليوم المُتَكرِّرة المتشابهة أنْ تُدْرِك هذا السرّ الفائق الذي حَرَّك حياتهم بعيدًا عمَّا تألفه الجموع أو تنادي به الجموع. لم يَقْبَلوا بمشورةٍ مُتَسَرْبلةٍ برداءٍ يبدو عليه الحكمة والرّشاد بأنْ ينخرطوا في حياة المجموع وأنْ يقبلوا بقانون الدنيا بدلاً من العُلْيا.
حينما ننظر في وجهتيْن مختلفتْين لن نتمكَّن من فَهْمِ حَركة بعضنا البعض. لقد نَظَرَ القديسون إلى العَلاء، إلى الأُفق الممتد أبدًا، إلى النور الحقيقي، إلى المعَنى الأصيل، إلى الطريق الوحيد، ومن ثمّ تحرّكوا انطلاقًا من هذا المنظور الجديد. لذا لم يَفْهَم العالم ما الذي يقومون به. لم يستطِع العالم، حتى أقرب الأقرباء، سوى أنْ يروا أنّ ذلك بمثابة تهوُّر وقراءة خاطئة للحياة!! لا ملامة عليهم، فهم ينظرون إلى أُفُقٍ آخَرَ!!!
لقد تَرَكَ أبّا مينا رداء الجنديّة الذي يُشَار إليه بالبَنَان في مجتمعاتٍ تُجِلّ المقاتل، وتَحَرَّك صوب الصحراء. لم تكن الصحراء بالنسبة له ولمَنْ انفتحت أعينهم على الحقيقة هي ذاك المكان القَفْر الذي سيضْبِطُ فيه نفسه بإيقاعاتٍ نُسْكيَّةٍ صارمةٍ فقط. بالتأكيد الأمر أكبر من هذا. هناك تكريسٌ كاملٌ لمخاطبَة المحبوب، وانشغالٌ كاملٌ بما هو أصيلٌ وجوهريٌّ في الحياة.
ألَا يمكن أن نُخَاطِب المحبوب، في العالم ووسط حياتنا الاعتياديَّة؟ يتساءل البعض. بالطبع يمكن، ولكن لا يجب أنْ نضع قالب أحادي لخبرات البشر. الله يلاقينا في كلّ مكانٍ وأي مكانٍ، ولكن هناك مَنْ قَرَّر أنْ يصير رَحَّالةً على دروب الربِّ .. أنْ يُكَرِّس كلّ وقته وجهده للحقيقة الأبديّة .. أنْ يُطَالِب بالمزيد من النور والرؤية والفهم والحبّ. هناك مَنْ تَذَوَّق بَهْجَة من نوعٍ خاص وشكر الله عليها، وهناك مَنْ تذوَّق تلك البَهْجَة وكَرَّس حياتَه لملاحقة البهجة الملكوتيّة التي لا يَجِد لها بديلاً لإرواء ظمأه المُتَلظِّي دائمًا، وجوعه الصارخ أبدًا. إنّ هذا الملكوت، بحسب تعبير أديب مصلح، هو ”طريق قمّة مصعدٌ شقَّه يسوع بعيدًا عن مرابع الإيمان الهيّن وبعيدًا عن الحنين إلى الماضي. فيسوع يشدّنا للأمام“. مَنْ يحيا للملكوت يتسلَّق برفقة المخلِّص هذا الدرب الاستثنائي غاضًا النظر عن موقف الجموع من مسيرته.
قد نَقَع في فَخِ القَولبة المُضادَّة بأنْ نَتَخَيَّل أنّ البَهْجَة الملكوتيّة لا تسكن إلاَّ في الصحراء! كلاّ .. إنّها تسكن في كلّ دعوةٍ صادقةٍ يحياها الإنسان، ويدفع كُلْفَتها حينما يبدأ في الحركةِ عكس الشائع والمُعْتَاد والذي نسجه المجتمع بقيمه من حوله. هو لا يَرْغبُ في الحَركةِ عكس الشائع والمعتاد بكلّ تأكيد لأنّ هذا الأمر مؤلمٌ ومكلّفٌ، إلاّ أنّ قوى الجذب هي ما تُحَرِّكُ المسيرة وليس الرَّغبات الشخصيّة. لقد كانت بَهْجَة بولس الملكوتيّة في الكرازة باسم ابن الله بين الأمم. لقد تحرَّك ضدّ الشائع والمعتاد من اليهود، وهو ما خَلَّق مقاومين له في كلّ مكان عَبَرَ عليه. ولكن، مَنْ ذاق، سيُكْمِلُ المسيرةَ والدعوةَ رغم الصعاب؛ فخفة الضيق الوقتيّة تُنْشئ أكثر فأكثر ثقل مجد أبدي لمَنْ يحيا لدعوةٍ، ولمَنْ رأى وعاين (انظر2كو4: 17).
لقد تَرَكَ أبّا مينا العالم، بالأساس، لا لأنّه لم يُعْجَب بالعالم، وإنْ كان هذا أمرًا طبيعيًّا، بل لأنّه أُعْجَب بالأبديّة. يرى البعض أنّ تَرْك العالم موقفٌ سلبيٌّ. يرون أنْ مَنْ يقومون بهذا العمل لهم أعين لا تستطيع أنْ ترى الجميل في العالمِ، ويَدًا لا تستطيع أن تُفْلِح العالمَ ببذار الملكوت. بالتأكيد البعض يُقدِّم هذا النموذج، وهو غير صحّي، إلاّ أنّ أولئك القديسين كانوا في حالة انجذاب نحو الأبدي. ذلك الانجذاب المُقَدَّس هو القادر أنْ يقتلع الإنسان من كلّ تلك الروابط الهائلة. الكثيرون غير مقتنعين بما في العالم، ولكنّهم لم يَتَحَرَّكوا قيد أُنملة بعد، لأنّهم لم يَعْبُروا في مجال الانجذاب المُقدَّس الذي يرفعهم نحو المطلق.
إنّ الانجذاب للإلهي لا يَعِد بحياةٍ هانئةٍ ملآنةٍ بالبهجةِ الدائمةِ غير المُنْقَطِعة كما يَتَوهَّم البعض، ولكن على العكس فإنّه مع الانجذاب والحركة ضِدَّ المُعتاد والشائع تبدأ حركةٌ عنيفةٌ من كلّ صوبٍ وحدبٍ ضدّ ذاك الانجذاب المُقَدَّس. وسط هذا الأتون، يبقَى الصوتُ الإلهي: ”أنا معك“. من هنا يبدأ اليقين يضرب بجذوره في النَّفْس يومًا بعد يوم، رغم العواصف العاتية. إنّها ضريبة كلّ مَنْ يَسْلُكُ بقانون الجذب الإلهي؛ عواصف عاتية، إلاّ أنّ هناك يقينًا يتمثَّل في المَعِيَّة الإلهيّة. من الميسور على من يَرْقُب المَشْهَد من الخارج أنْ يُطالِب الشخص بالرجوع والعودة إلى دوائر الأمان والمُعتاد، ويبدو هذا الطلب معقولاً ومنطقيًّا. ولكن ... الجذب الإلهي الفائق غير المرئي لمَنْ يَرْصُد من الخارج هو ما يدفع مثل هذا الإنسان أن يُكْمِل مسيرته رغم كلّ شيء.
لا نعرف الكثير عن عبادات أبّا مينا في البريّة، إلاّ أنّ شوقه التالي للشهادة يعطينا صورة أنّ نفسه الصافية قد وَصَلَت إلى صورةٍ كاملةٍ وواضحةٍ عن الحياة الأبديّة، فمَنْ تَمْلُك عليه قوى الأبديّة يطمع ويطمح في العبور. بيدْ أنّ مثل هؤلاء المصابيح المتّقِدة لا يَقْبَلون بعبورٍ معتادٍ، يَأبْوا إلاّ أن يَشْهَدوا حتى آخر لحظة عن الحياة والنور .. يَشْهَدوا عن الربّ يسوع، رفيق دربهم وبهجة قلوبهم، مهما تَكَلَّف الأمر.
تَرَكَ أبّا مينا البريّة والهدوء إلى حيث ساحة النزال النهائي .. إلى الحَلَبَة Arena التي سيُصَارِع فيها قوى الظلمة أمام الجميع. هذا يُؤكِّد أنّ أبّا مينا لم يكن أسير قولبة روحيّة ما. لم يرى البريّة مُسْتقرًّا نهائيًّا، ولم يألف حالة السكون والهدوء بدرجة تجعله يتجاهل نداء الحبّ في داخله وقوى الجذب المقدّسة الدائمة. هناك مَنْ يَخْلِق دوائرَ اعتيادٍ في أماكنَ مُقدّسة!! فحينما ينفلت من دوائر المعتاد التي في العالم، يصنع له بديلاً عنها في عالمه الجديد. لم يكن أبّا مينا من هذا النوع، إذ كان رحّالة على درب الملكوت.
لا يمكن أنْ نعزو صمود القديس أبّا مينا في بحر الدماء الذي سال إلى شجاعة إنسانية مجرَّدة، بل هو نتاج شجاعة روحيّة تتولَّد وتتوالد من رَحِم الصلاة المستمرة. مَنْ يَتَدَرَّب على الصلاة ويدخل إلى الحضور الإلهي وينال اليقين ويعاين الحقيقة هو مَنْ يستطيع أنْ يَصْمُدُ أمام التهديد والوعيد وطقطقات تروس الهمبازين والتماع نصال السيوف واستعار لهيب النيران ... إلخ. إنسان الأرض الذي تحرّكه غريزة حُب البقاء الأرضي لا يقدر أنْ يُقَاوِم شَبَح الموت الأليم، ولكن إنسان الله الذي عَرِفَ ورأى وأيقن واختبر وتذوَّق الحقيقة، هو فقط مَنْ يستطيع بالنعمة الإلهيّة التي تَغْمُره أنْ يُقاوِم وينتصر بالموت.
نعم، أبّا مينا مات (بحسب رؤية مضطهديه) ولكنّ موته الذبائحي كان انتصارًا لصمود الشّهادة أمام سهام الشك والترهيب. كان موته مثمرًا، فقد آمن الكثيرون حينما سمعوا صوتًا يَشْهَد لهم عن واقعٍ آخر، وقد صَمَدَت شهادته حتى النّهاية. لقد مَاثل مُعَلِّمه الذي أحبّه، إذ بقَى مُوَطَّد العَزم حتى النّفَس الأخير. هل كانت ترتسم ملامح صليب المسيح في مخيّلته لتؤازره في آلامِه، إذ قد عَبَر في معصرة الألم وانتصر؟ لا ندري. ولكن ما ندركه أنّ الحضور الإلهي كان مرافقًا له، وقد ثَبَّت وجهه نحو أورشليم حتى انطلقت روحه صافية مُحَلِّقة ناصعة منيرة على ألحانٍ عذبةٍ لتُعَانِق محبوبه الذي استقبله بأناشيد النّصرة الملكيّة، وتوَّجه، وأجلسه في مجلس الأبناء، مُمَجَّدًا كفارسٍ نبيلٍ قد أكمل نِزَاله على الوجه الأكمل ليَسْكَن في محضر الملك إلى أبد الآبدين.