قد نحاط بكثيرين، ولكن أنّاتنا من الوحدة الداخليّة تَصْدَح في ليالينا القلبيّة. مئات الأسماء نضيفها إلى قائمة هواتفنا، ومازال رجاؤنا شاحبٌ مُخَلْخَلٌ وبحاجة إلى حجر زاويةٍ. نقضي يومنا مُنْهَكين ما بين الرّسائل والمكالمات والابتسامات وكلمات الإطراء ولكنّنا مع كلّ هذا نشعر أنّنا عرايا من الرّفقة والبهجة! أحباؤنا وأصدقاؤنا ومعارفنا وأهلنا وجيراننا قد يَمْلُكون الرّغبة على مساندتنا وعوننا ولكنّهم لا يستطيعون، وذلك لأنّ سَيْلَ الألم الإنساني والحاجة الإنسانيّة ينطلق من القلب .. من الداخل. من الأمور المؤلمة أنْ ترى أُمًّا برفقة وليدها في المستشفَى، والأخير يتألَّم وهي لا تملك أنْ تفعل شيئًا. لن تُضَمِّد محّبتها له جرحه. لن تستطيع تحويل مسار الألم ليَنْهَش فيها عوضًا عن وليدها المُتَأَلِّم. هي تُحِب ولكنّها لا تملك أنْ تُغَيِّر من الأمر شيء. إنّها فقط تملك الصلاة. وحينما تُصلِّي قد لا يَخْفُت الألم، ولكنّها قد تكتشف معنَى الألم، وتطمئن إلى أنّ الألم مؤقّت لن يدوم. إنْ كانت نظراتنا دائمًا إلى أسفل .. إلى ذواتنا وآلامنا .. تبحث عن الرجاء بين البشر، تبعثرت نظراتنا وتشتَّتت. ولكن، حينما نَرْفَع أعيننا إلى فوق فإنّها تتلاقَى معًا في بَلْدَة الرّجاء الصافية.
نحن كائنات محدودة للغاية. لن نَتَمَكَّن مهما أَخْلَصنا لمَنْ حولنا أنْ نَكون أو نُكَوِّن حجر زاوية آمنٍ لهم. لن نصير أبدًا موطنًا للرجاء. لن نتمكَّن من طمأنتهم أنّهم يمكنهم أنْ يُعَوِّلوا علينا. فنحن أنفسنا لا نَمْلُك زمام الغد. نَتَرَقَّبه مثلهم. نوايانا الطيّبة أبدًا لن تَكْفي. نرغب بالفعل أنْ نكون عونًا صادقًا لمَنْ حولنا، ولكن آلام الأحبَّاء قد تكون أعمق من أنْ تَصِل إليها أيادينا القصيرة القاصرة. لذا علينا دائمًا تَجَنُّب فخ أنْ نروج لذواتنا بين أحبائنا وكأنّنا لهم بمثابة ميناء الرجاء ومكمن الأمان.
هو وحده الذي يمتلك القدرة أنْ يَرْتَحِل إلى داخل أعماقنا. الجرحُ العميقُ الذي لا يمكن لأيدٍ مخلوقة أنْ تطاله لأنّه في أعماقنا، تُضَمِّده اليد الإلهيّة. كلّ غُربةٍ نَشْعُرُ بها، إنْ رافقنا هو، صارت موطنًا آمنًا. لن نعاني من الوحدة إنْ كان هو في عالمنا، حتى وإنْ كنّا نحيا بمفردنا ليالٍ طوالٍ. هو الوحيد القادر أنْ يُؤكِّد لنا أنّه معنا على الدوام. هو لن يَتَغَيَّر. هو وحده القادر أنْ يُدَرِّبنا كيف نحيا إذ يَتَحَرَّك بحريّة بين دروب قلوبنا غير المطروقةِ. هو وحده القادر أنْ يُلقي ببذار الرجاء ويُفْلِح قلوبنا بروحه القُدّوس ويُشْرِق بشمس مَحَبَّته ويُرْسِل ندى نعمته فتُثمر حياة وافرة.
إن آمن الشخص برجاءٍ من مصدر آخر أو إنْ لم يَسْتَجِب لدعوات الله المستمرة له فإنّه، بتعريف كيركجارد، مُفْتَضَحٌ، إذ أنّه برهن على جهله وضعف إدراكه. هو يكتب: ”من أجل هذا الشّخص يأتي الربّ إلى العالم ويولد ويعاني ويموت، وهذا الربّ يتألمَّ ويترجّى بل ويضرَع لهذا الشّخص أنْ يَتَقَبَّل المساعدة التي يُقَدِّمها له! حقًّا، إنْ كان هناك أي شيء يجعل الإنسان يفقد عقله فيجب أنْ يكون هذا! كلّ إنسانٍ ليست لديه الشجاعة المتواضعة للإيمان بهذا، هو إنسانٌ مُفْتَضَحٌ! ولكن لماذا هو مُفْتَضَحٌ؟ لأنّ مثل هذا الأمر هو أسمَى منه، وقد أَظْهَر أنّه لا يستطيع أنْ يستوعب هذا الأمر، لأنّه، أمام تلك الحقيقة، لم يقدر أنْ يرتبط به قلبيًّا بشكل جلي! ومن ثمَّ .. يُحَوَّل قيمة هذا الأمر إلى جنون .. إلى لامعنَى .. إلى أمرٍ عقيم في نهاية الأمر!“
إنّ التَّقَوِّي بالرجاء هو من سمات السائرين على الطريق الرّوحي. يكتب ماراسحق (النسكيات، مقال 12): ”إذا تقدّمت نحو الأمام فستجد في نفسك العلامات التالية الواضحة: تتقوى بالرّجاء في كلّ شيء، وتصبح غنيًّا بالصلاة.“
إنْ كان الله هو رجاؤك، يبدأ في العمل، وإنْ اتّكلت على مَنْ حولك، يتراجع في رقّةٍ ليَتْرُك لك حُريَّة الاختيار، إلاّ أنّه يكون دائمًا على أَهُبَّة الاستعداد أنْ يأتي وفي يده بذار الرجاء ليُغَيِّر عالمك مَرَّة واحدة وإلى الأبد وليرفعك إلى سمو الحقيقة الإلهيّة رويدًا رويدًا. إنْ افتقرت إلى الرّجاء فلتُبْحِر في كلمة الله لتجمع لؤلؤ الرّجاء من تعاليم الربّ وحيوات القديسين ولتطلب على الدوام أنْ يتحرَّر ذهنك من المنظور ليَطْمَئن حينما يَثْبُت في رجاءِ غير المنظور.