لم يذكّر القديس متّى الدعوة الثالثة، واكتفى الروح القدس بتسجيلها عند القديس لوقا.
أتعجّب من مبادرة هذا الشخص بطلب التبعيّة في الوقت الذي ينوي فيه تأجيل اتخاذ اللاّزم من أجل التبعيّة!
لماذا من الأساس طلب أن يتبعه؟!
هل هي فورة حماسيّة وسط من طالبوا بالتبعيّة، وكأنّه وسط جمعٍ يعلن إيمانه، فكان عليه أن يعلن ما يعلنوه، ويطلب من يطلبوه، في الوقت الذي لا ينوي أن يقوم بهذا الأمر الآن ...
هناك ما يسمّى بحماسة الجموع ...
ولكن لا يمكن أن تخلق دعوة حقيقيّة أو تترسَّخ قناعة صلبة من حماسة الجموع!
حماسة الجموع تدفعنا من الخارج، ولكن الله يريد أن يكون مركز وعينا وقرارنا وقناعتنا من الداخل، من خلال عمل الروح الداخلي في القلب.
الله يعاملنا بشكل شخصي للغاية، ويدخل في حوار، ويلقي بذار بشكل شخصي للغاية ...
هو لا يريد رقمًا في قطيع، ولكنّه يريد خراف عاقلة، تعرف معنى التبعيّة للرأس، ولكنّها تقرّر بإرادتها الحرّة تلك التبعيّة وتدرك مسؤولياتها ...
إنّ سرّ استجابتنا لدعو الله لنا هي كلمة "الآن" ...
كلّ عمل واستجابة ليست "الآن" لا يمكن أن تكون استجابة، ولكن هرب!
يكتب سي. إس لويس، في رسائل خربر، الرسالة العاشرة، عن حيلة التسويف التي ينتهجها الشرير في حربه الروحيّة ضدّ أولاد الله. هو يكتب بلسان الشرير الذي يحارب البشر، فيقول:
شغلنا هو أن نبعدهم (البشر) عن ما هو أبدي، وما هو حاضر.
إنّ الأفضل هو أن نجعلهم يعيشون في المستقبل.
إذ أنّ الضرورة البيولوجيّة تجعل جميع عواطفهم الشديدة
تتوجّه في هذا الاتجاه بالفعل،
بحيث يضرم فيهم التفكير في المستقبل [هو يفرِّق بين الأبدي والمستقبلي]
إمّا بالرجاء أو بالخوف.
ثمّ إنّ المستقبل مجهولٌ عندهم، حتى إننا إذ نجعلهم يفكّرون فيه،
نجعلهم يفكرون في أمور غير حقيقيّة.
وبالاختصار، فإنّ المستقبل، من بين جميع الأشياء،
هو الأمر الأقل شبهًا بالأبديّة.
إنّه أكثر أجزاء الزمان المؤقّتة:
لأن الماضي مُجَمَّد ولم يعد يجري،
والحاضر تنيره الأشعّة الأبديّة.
لذا، فإنّ جميع الرذائل تقريبًا لها جذور في فكرة المستقبل،
في قلب ما هو مؤقّت وزائل.
فعرفان الجميل ينظر إلى الماضي، والمحبّة إلى الحاضر.
ولكن مستخدمًا بشكل مستمر، كل موهبة حقيقية ينالها في الحاضر،
مجرّد حطب ووقود به يثقّل مذبح المستقبل.
إننا لا نملك سوى "الآن"، ولا يمكننا أن نثق سوى في "الآن"، مع أنّ النعمة تُقَدَّم "الآن"، والإمكانيّة متاحة "الآن".
لماذا نراهن على المستقبل؟ لماذا احترفنا التسويف والتأجيل والرّهان على إمكانيّة أفضل في الغد؟ لماذا نعتقد دائمًا ... دائمًا ... أنّ الغد لن يُحَمَّل بمعوقات حياتيّة جديدة كالتي نعاني منها اليوم؟!
إنّ أسهل خدعة من الشرير هي أن يقنعنا أنّنا نملك إيمانًا ورغبة، ولكن لن يحدث شيئًا إن تأجّل الأمر للغد ...
بهذا تهدأ ضمائرنا لأنّها لم ترفض الدعوة، وأحيانًا لأنّها أعلنت بـ "الفم" قبول بالدعوة، في الوقت الذي لم نفعل فيه شيئًا حقيقيًّا على الطريق ... لم نتحرّك خطوة واحدة على الطريق!
محبّة المسيح لن تكون بالكلام واللّسان، ولكن بالعمل والحق (1يو3: 18)، هكذا يعلّمنا القديس يوحنّا.
في عظته على الجبل طالبنا المسيح قائلاً: "فَلاَ تَهْتَمُّوا لِلْغَدِ، لأَنَّ الْغَدَ يَهْتَمُّ بِمَا لِنَفْسِهِ. يَكْفِي الْيَوْمَ شَرُّهُ." (مت6: 34). كان يتكلّم عن الاهتمام المقلق بالمستقبل. ولكن يمكن قراءة كلماته من منظور آخر أيضًا، وكأنّه يقول: لا تراهنوا على الغد، هو يأتي بتحدياته ونعمته، فقط اعملوا اليوم، وواجهوا تحديات اليوم، واستثمروا في اليوم، وانجحوا في اختبار اليوم ...
لم نسمع أنّ المسيح دعا يومًا لموقف نتّخذه في المستقبل، لأنّ كلّ ما في المستقبل متغيِّر؛ أنا أختلف عن أنا في الحاضر، الظروف قد تختلف عن الظروف في الحاضر، والتحديات قد تختلف عن التحديات في الحاضر، الميول قد تتبدّل عن الميول في الحاضر ... كلّ رهان على المستقبل هو رهان على السراب، ويسبّب تأخُّر وتعطُّل روحي كبير لنا على الطريق ...
قوّة دعوة المسيح في الحاضر تكون هائلة، ولا يستطيع الشرير أن يقاوم قوّة جذبها للروح الإنسانيّة، لذا تجده يعمل بكلّ قوته أنّ يقنعنا بالتأجيل ولو لوقت قصير، ولأسباب تبدو منطقيّة للغاية، حتى يخرجنا من دائرة قوّة جذب الدعوة في الحاضر، وحينما نخرج من تلك الدائرة، يسهل عليه أنّ يغرقنا باهتمامات لا حصر لها، في الوقت الذي لا نشعر فيه بقوّة جذب الدّعوة كما قبل، فتذبل كلمات الدّعوة، ونعود لدوائر حياتنا المفرغة وكأنّنا لم نُدعى قطّ!
من يريد يسوع حقًّا، يسعى بكلّ طاقته لأن يستثمر تلك الأوقات في الحاضر التى تكون فيها كلمات الدّعوة جاذبة، ويستثمر كلّ لحظة من تلك اللّحظات لأنّها تتحوّل إلى عونٍ على الطريق في الوقت الذي قد تغرب الشمس فيه ونشعر بالوحدة "بتدبير النعمة" (كما يكتب القديس مقاريوس الكبير) ...
نعود لصديقنا الذي طالب أن يتبع يسوع كفكرة، ولكنّها مؤجّلة ...
أعتقد أنّنا أمامه لا نملك إلاّ أن نتعاطف مع ذاك الرجل الذي أراد فقط أن يدفن أباه!
صديقنا هنا، يريد أن يودِّع أحبّائه وأهل بيته ...
إن وازنا بين الموقفين، سنتعاطف مع قضيّة وحجّة الأوّل بكلّ تأكيد ...
ولكن في الوقت نفسه، لا نستطيع أن نتعالى على الشعور البشري بالحنين لأهل البيت ... وأعتقد أنّ معظم المسيحيين سوف يكون ردّ فعلهم مشابه لهذا الرّجل ...
مجدَّدًا، أعتقد أنّ المسيح لا يطالبنا بالقسوة والجمود تجاه أحبّائنا، ولكن إن كان هناك مرض مخفي ومتخفي خلف تلك القشرة من الحنين لأحبّائنا، سيعمل المسيح على شفائه وإن كان من خلال مشرط قاطع باتر مؤلم لكي نستطيع أن "نحبّ بحقٍّ" و"نتبع بصدق" ...
إنّ الله الذي زرع فينا إمكانيّة تكوين علاقات، لا يمكنه أن يرفضها أو يقبّحها! وإلاّ يناقض بذلك خلقته ...
نحن أشخاص، والتي تعني، كائنات قادرة على إقامة علاقات مع آخر.
ولكنّ الله، في المقابل، وبالتأكيد سيرفض انحرافها إن صارت عائقًا عن نمونا ونمو أحبّائنا ...
منذ السقوط، وكلّ علاقة جميلة انسلت إليها دوافع غير مستقيمة ... لقد بُذِرَ الزوان مع الحنطة ...
لا يكفي أنّ العلاقة أرادها الله، لأنّ ما يُحَرِّكها قد لا يكون دوافع مستقيمة في عين الله ...
لنتذكّر دائمًا أنّ عمل المسيح الدائم والأساسي هو استرداد حريّتنا، لأنّ صورته تتكمّل فينا من خلال حريتنا ...
أعتقد أن إحدى عوائق محباتنا لأقربائنا هي أنّها محبّة بها قدر من الذاتيّة، تشبع الذات من الداخل لأنّ بها قدرًا من التملُّك والحصريّة؛ هذا ابني أنا، هذه أمي أنا، ذلك زوجي أنا، تلك زوجتي أنا ... إلخ. بالتأكيد الحصريّة طبيعيّة في روابط اللّحم والدم، ولكنّ الله يريدنا أن نكون أخوة وأبناء وآباء لكثيرين آتين إلى المجد ... حينما أسّس المسيح كنيسته، جسده، كعائلة، أراد أن يكون الحبّ فيها متحرِّك دونما انحياز لأي سبب. لا نبدأ بكلّ تأكيد رحلتنا الروحيّة هكذا، ولكن علينا أن نعي، ونحن في البدايات، أنّنا مدعوون لحريّة الحبّ. هناك نقطة بدء من الأهل والأقرباء يجب أن ننجح فيها قبل أن ننتقل للمستوى الأعلى من الحبّ المشرق على الجميع. لم نجد المسيح يتعامل مع أمّه القديسة مريم بأي نوع من أنواع التمييز. ومع ذلك كان مهتمًّا بها في أصعب اللّحظات وهو على الصليب، وسلّمها ليوحنا ليكون لها ابنًا ولتكن له أمًّا. هنا الاتزان في الحبّ الذي لا يميّز ولكن يرعى ويدعم ويسند ويهتم.
لعلّ هذا ما يحيّر البعض. المسيح يريدنا أن نتحرّك على مثاله، لنحبّ الجميع نفس المحبّة. هو لا يريد محبّتنا لأهلنا وأقاربنا تقل، ولكن يريد محبتنا للآخرين أن تزيد لتصل لنفس الدرجة. هنا يفقد الحبّ حصريته، ولكن يبقى بنفس فعاليته للأهل والأقرباء.
في الأبديّة لن يكون هناك حصريّة في الحبّ؛ بل جسد واحدٌ وأعضاء كثيرين ...
مثلاً؛ إن اختلف ابنك مع ابن صديقتك، ستجدي أنّ هناك ميلاً طبيعيًّا لانصاف ابنك في الاختلاف، لأنّ الحبّ حصري، لا لأنّ ابنك على صواب، مع أنّ هذا الأمر قد يضر في تربية الطفل ... هو يحتاج لأمان المساندة والدعم من أمّه، ولكن في الوقت ذاته يجب أنّ يعرف أنّ الحبّ يمتد لآخرين أيضًا، ويرى الحقيقة، ولا يبرئ الخطأ ...
هناك زوج يستمع لزوجته وهي تشتكي من أمرٍ ما، وهي ليست محقّة في الأمر، ولكنّه يصادق على خطأها!!
أعتقد أنّ هذا خطأ ولا يخلق حبّ صادق بالمرّة، لأنّ الحبّ هنا حصري، وليس حقيقي ...
حبّ الآخر هو حبّ أن يكون في الحق، لا خارجًا عن الحق ...
يمكن أن نقوم بهذا الأمر برقّة وفي الوقت المناسب وباللّغة المناسبة، ولكن يجب أن يكون الحبّ مفتوحًا على الجميع، مع دعم ومساندة القريب ليدرك الصواب من الخطأ ...
ما يريد أن يشفيه المسيح فينا هو أنّ حبنّا رهنٌّ بروابط اللّحم والدم!!
مرّة أخرى أريد أن أؤكِّد أنّه لا يريد محبّتنا لأقاربنا تقل، ولكن محبّتنا للآخرين تزداد لنفس المقدار ...
إن لم نشفى من حصريّة الحبّ، كيف سنكرز لمن لا نحبّهم كما يحبّهم المسيح؟
وكيف نضحّي من أجل من يحبّهم المسيح؟
إن لم نختبر حبّ المسيح الحرّ، الممتد للجميع، لن نستطيع أن نكون كلمته للعالم لأنّ قوّة الكلمة في الحبّ المحمولة عليه ...
ملكوت الله إن ملك علينا، صار أقوى من روابط اللّحم والدم ...
ليس تلك نظرية ولا تزيّد ولا مبالغة ... ولكنّها حقيقة ...
لنتذكّر أنّ حنَّه قدّمت ابنها البكر صموئيل للربّ، وكان وحيدها وقتها، وقد ولدته بعد معاناة مرّة طويلة ...
يوضِّح تلك الحقيقة القديس مقاريوس، في عظته الرابعة، من خلال مقاربة مبدعة إذ يرى أنّ الإنسان حينما يريد أن يتزوج ينفصل عن أهله وبيته وأخوته وأحيانًا أصدقائه من أجل محبّته للعروس. هو يبدأ حياة جديدة بمعطيات جديدة تمامًا في بيت جديد مع العروس. "فكم بالأحرى جدًّا"، يضيف القديس مكاريوس، "أولئك الذين دخلوا في شركة مع الروح، ذلك الروح السماوي المحبوب، ينفكون من كلّ محبّة في العالم، ويصبح كلّ شيء آخر عديم القيمة بالنسبة لهم لأنّهم غمروا بشهوة سماوية، وصاروا بكليتهم في ألفة وانسجام معها."
عرفت بعض الأشخاص ممّن يعانون لكي ما يحافظوا على ما تتطلّبه روابط اللّحم والدم، لأنّ حمى ملكوت الله قد ملكت عليهم بالكامل، وصاروا كلّهم رغبة أن يكونوا لله، أبناء، وخدامًا أمناء، وتلاميذ مخلصين له بالتمام والكمال ...
أعرف بعض الآباء في الدير ممّن كانوا يرفضون أن يلتقوا بأسرهم، مع أنّهم في غاية الرّقة واللّطف، وكانوا يخرجون للقاء أسرهم، بمنتهى الحبّ والودّ، بدفعٍ من المرشد الرّوحي، لا لأنّهم يكرهونهم أو لا يحبّونهم، ولكن لأنّهم كانوا مسبيين ومأسورين في حبٍّ آخر يملك عليهم في ذلك الوقت. وهذا الأمر لا يتعلَّق بالأهل فقط، ولكن بالأخوة أيضًا، وهذا ما كشفه القديس مقاريوس، إذ ألمح، في عظته الرابعة، أنّ هناك بعض الأخوة المحبوبين له، ولكن إن أعاقت تلك المحبّة، محبّة الروح، فإنّه ينصرف عنهم!
في المقابل، كان لدينا في الدير أبٌ متوحِّد (قد تنيّح منذ سنوات) يحيا وحدة كاملة في مغارة لعشرات السنوات، كنّا لا نراه تقريبًا إلاّ حينما نزوره في الأعياد في مغارته الصغيرة المحفورة في الصخر، وكان يلاقينا بمنتهى الترحاب والود، وكأنّه لم يفقد الحس الاجتماعي لحظة. ولكنّه حينما سمع أن أخيه بالجسد فقد بصره، وكان مسنَّا، ولم يكن هناك من يهتم به، نزل إليه للقاهرة، وصار يخدمه أسبوعيًّا، مع أنّه كان قد تجاوز السبعين وقتها! كان يصنع له الطعام، ويجلب احتياجاته الدوريّة، ويتابع علاجاته، وينظف له المنزل ... إلخ من الأعمال الضروريّة. واستمر على هذا الأمر ما يتجاوز السنتين على ما أتذكَّر، حتى مَرِضَ هو ولم يَسْتَطِعْ أن يقوم بهذا الأمر بعد ذلك.
لقد تعلَّم التحرُّر من روابط اللّحم والدم بالتمام، ولكنّه لم يتعلَّم التحرُّر من المسؤوليّة إن طلب منه الروح هذا الأمر ...
لنتذكّر مثال المسيح الذي لم يميّز أمّه العذراء مريم؛ "فجاءَتْ حينَئذٍ إخوَتُهُ وأُمُّهُ ووقَفوا خارِجًا وأرسَلوا إليهِ يَدعونَهُ. وكانَ الجَمعُ جالِسًا حَوْلهُ، فقالوا لهُ: هوذا أُمُّكَ وإخوَتُكَ خارِجًا يَطلُبونَكَ. فأجابَهُمْ قائلاً: مَنْ أُمّي وإخوَتي؟ ثُمَّ نَظَرَ حَوْلهُ إلَى الجالِسينَ وقالَ: ها أُمّي وإخوَتي، لأنَّ مَنْ يَصنَعُ مَشيئَةَ اللهِ هو أخي وأُختي وأُمّي." (مر3: 31-35)، في الوقت الذي اهتم بها وهو على الصليب واستأمن يوحنا عليها؛ "فلَمّا رأى يَسوعُ أُمَّهُ، والتِّلميذَ الّذي كانَ يُحِبُّهُ واقِفًا، قالَ لأُمِّهِ: يا امرأةُ، هوذا ابنُكِ. ثُمَّ قالَ للتِّلميذِ: هوذا أُمُّكَ. ومِنْ تِلكَ السّاعَةِ أخَذَها التِّلميذُ إلَى خاصَّتِهِ." (يو19: 26-27)
من يقوده الروح يملك التمييز ...
حينما برز نور القديس باخوميوس وبدأ يتوافد عليه من يريد أن يتتلمذ على يديه، وجد أنّه بدأ يفقد الهدوء، فبدأ يصلي طالبًا مشيئة الله؛ هل يبتعد من أجل المزيد من الهدوء؟ أم يبقى ليقبل تلاميذ؟ ظهر له ملاكٌ، وقال له: "باخوميوس، إنّ إرادة الله هي أن تخدم أخوتك."
هناك نقطة اتزان من المهم أن ندركها حتى لا تعرقلنا عاطفة الروابط، وأيضًا حتى لا نهرب من مسؤوليات العلاقات المفيدة لنا في تشكيلنا في مرحلة من مراحل الطريق الروحي، وبحسب إرادة الله، ولكن في كلّ أمورنا يجب أن يكون الروح هو مرشدنا ...
مَنْ تحرّروا، أو على طريق التحرُّر من روابط الحنين إلى اللّحم والدّم، أدركوا سرّ كلمات القديس يوحنّا في افتتاحية إنجيله المبهرة. أدركوا أنّهم ليسوا من دمٍ، ولا من مشيئة جسدٍ، ولا من مشيئة رجلٍ، بل من الله. (يو1: 12 -13) لقد عرفوا أصلهم الحقيقي، وصار هذا الأصل هو محرّكهم في كلّ ما يعملون ...
أعرف أنّ هذا الكلام لن يكون مقبولاً ولا مريحًا فيمن يفكّر في أولاده أو بناته أو والده ووالدته وأخوته ... إلخ ...
ولكنّ دعني أطمئنك؛ فالمسيح لا يريدك أن تهجرهم أو تقلِّل من محبّتك ورعايتك لهم بأي شكل من الأشكال، ولكنه يريد ألاّ تصبح تلك الروابط عائقًا أمام محبّتك له وتبعيتك له، ولئلا تصبح عائقًا لهم في تبعيتهم له، وذلك لأنّ تلك الروابط قويّة للغاية ...
ستستمر في حبّهم بكلّ طاقتك، وتقديم كلّ ما تملك من أجل سعادتهم وراحتهم، ولكنّهم لن يصيروا مركز حياتك بدلاً من المسيح ...
المسيح وحده يمكنّه أن يكون مركز حياتنا، قلبنا مُصَمَّم ليمتلئ في المركز بالمسيح فقط، أي شخصٍ آخر يدخل في هذا المركز لن يستطيع أن يريحنا، ولن نستطيع أن نريحه.
إن كان المسيح في المركز، كانت دوائر العلاقات كلّها سويّة، وفي مكانها الحقيقي ... وهذا ما ينجحها ...
نعتقد خطأً، أنّه إن أحببنا أولادنا أكثر من أي شيء آخر أو أي أحد آخر، فهذا سينجح علاقتنا بهم!
ولكن إن أحببناهم، من مركز قلبي سكنه المسيح، أمكننا أن نحبّهم حبًّا ليس غريبّا، ولا مبالغًا فيه، وهذا يفيدينا في رحلة تربيتهم لأنّنا وقتها لن نقلق عليهم بشكلٍ مرضي، كما سيفيدهم لأنّهم سيواجهوا الحياة برفقة المسيح الحاضر معهم في كلّ مكان وكلّ موقف، ويختبروا من محبتنا لهم، محبّة المسيح المستمرة معهم ...
هذا الأمر ليس سهلاً ... أنا أعلم ... يحتاج للكثير جدًا من الصلاة، والاختبار، حتى نصل إلى التصديق والثقة في المعادلة الإلهيّة؛ أنّ كلّ محبّة مركزها المسيح تنجح، وأنّ كلّ شخصٍ مهما كان إن سكن قلوبنا على عرش المسيح، آل هذا بنا إلى قلق وتوتر وخوف من فقدان هذا المركز، أو اهتزازه ... سنظل متألِّمين إلى أن يجلس المسيح على عرشه في القلب ليعلّمنا بالروح كيف نحبّ أحبّائنا بالطريقة الملائمة ...
أمرٌ آخر،
يستخدم المسيح مثل المحراث والأرض في توضيح ما يريد أن يعلنه ...
ليست مفردات المثل بعيدة عن الذهنيّة اليهوديّة التي تقرأ في (1مل19: 19-21) أنّ إيليا مرّ بإليشع ووجده يحرث، فطرح ردائه عليه، وهي علامة دعوة للتبعيّة والتلمذة، فما كان من إليشع الذي كان يحرث الأرض بأبقار لها اثنا عشر نير أمامه، إلا أنّ طلب الإذن ليرجع ويقبّل أبيه وأمه، أي يودّعهم، ويعود إليه. وبالفعل عاد إليشع وذبح الأبقار التي كان يحرث بها، وخلع الأنيار، وأطعم من معه بلحم البقر، وخرج ليتبع إيليا ليكون له تلميذًا.
لقد وافق إيليا على طلب إليشع، بينما نجد أنّ الربّ يسوع لم يعطي المساحة تلك لمن طلب تبعيّته.
كما اتفقنا، أنّ الربّ يسوع كان يعالج مرضًا في القلب، لتنقيّة التبعيّة، كما أنّ دعوة الملكوت ومتطلباتها لتبعيّة الربّ يسوع تتجاوز في حسمها متطلبّات الدعوة الأولى (التلمذة لإيليا).
ولكن على كلّ الأحوال، أعتقد، على ما يبدو، أنّ قلب إليشع كان مهيّأ للدعوة، لذا لم تكن لتفتته عواطف اللّحم والدم وتعرقل تبعيته لإيليا، على عكس الشخص الذي أراد تبعيّة يسوع ههنا.
من يضع يده على المحراث، يجب أن ينظر للأمام، حتى تخرج خيوط الحرث مستقيمة، ولكن إن مال بنظره، وهو ممسك بالمحراث، ستتعرّج الخطوط ... سيصبح الحقل عشوائيًّا ...
طريق المسيح ومسيرته هي مسيرة استقامة ... من يسير خلفه يكون مستقيمًا في طرقه.
الاستقامة أمر يمتد لكلّ مناحي حياتنا؛ استقامة الصلاة، استقامة السلوك، استقامة طريقة التفكير، استقامة المنطق، استقامة المشاعر، استقامة النوايا والدوافع، استقامة العلاقات، استقامة الطموح والتطلّعات، استقامة الأولويات، استقامة الوسائل التي نستخدمها لنحصل على ما نريد، استقامة الرغبات، استقامة الكلام، استقامة الانصات، استقامة ردود الأفعال، استقامة الحبّ، استقامة الاختلاف، استقامة العمل، استقامة الرّاحة، استقامة استخدام المال، استقامة استخدام السلطة ... إلخ.
لن يمكننا أن نبذر ونفلَح في أرضٍ خطوط حرثها ليست مستقيمة ...
كلّ حياتنا، إن كنّا أمناء، هي محاولة مستمرة لاتباع صوت الروح القدس، ليحرّكنا من العشوائيّة للاستقامة. كلّ ما يدعونا الروح القدس إليه هو بكلّ تأكيد على طريق الاستقامة.
دائمًا ما كانت كلمات سفر الأمثال تقلقني، إذ تقول: "تُوجَدُ طَرِيقٌ تَظْهَرُ لِلإِنْسَانِ مُسْتَقِيمَةً، وَعَاقِبَتُهَا طُرُقُ الْمَوْتِ." (أم14: 12). لا أخاف من الطرق الملتويّة لأنّها واضحة، ولكن الطرق التي يبدو أنّها مستقيمة تلك هي الأخطر!!
لا رجاء لنا في الاستقامة إلاّ إذ كانت قيادة حياتنا من الروح القدس ...
لن نستطيع بإدراكنا العّام، أو ملكاتنا العقليّة أنّ نسير على درب الاستقامة إن لم يقودنا روح الله القدوس ...
فهناك أمور جيّدة ولكن دوافعها خاطئة، وهناك دوافع جيّدة ولكن توقيتاتها خاطئة! هناك كلمات صحيحة ولكن قلوب غير مهيّئة لها! هناك دعوات صادقة ولكن نفوس غير ناضجة بعد لتقبّلها! وهكذا ...
من يستطيع أن يضع الدوافع والأفعال والتوقيتات على خط مستقيم هو من يستطيع أن يرى من فوق؛ فوق الحدث. هذا من إمكانيات الروح القدس. نجد كلمات القديس مكاريوس تجسِّد تلك الحقيقة إذ يكتب في عظته الثامنة عشر: "ومهما حاولت (النفس) فإنّها لا تثمر ثمرة واحدة من ثمار بر الروح بالحق، إلاّ إذا حصلت أولاً على شركة هذا الروح ذاته؟"
ونحن نعلم أنّ الخط المستقيم هو أقصر مسافة ما بين نقطتين؛ أي أنّ الاستقامة تجعل خطانا على الطريق أسرع، وهو ما يُؤَثِّر على الوقت الذي ننمو فيه في معرفة الله، وتحقيق دعوتنا، وتغيُّرنا الدائم والمستمر، وتجلِّي المسيح فينا.
المسيح يريد منّا أن ننظر للأمام لأنّ الحقل واسع، وميل صغير عن الاستقامة لن يسمح للروح بأن يبذر الكلمة في قلوبنا لتُثْمِر ...
إنّ من ينظر للوراء، ويمسك المحراث، سيفسد صورة ملكوت الله، ولن يكون جزءًا منه ...
هو ملكوت من كان المسيح لهم؛ الكلّ في الكلّ، وليس بعضًا في بعض المواقف والأوقات والأزمات ...
دعنا نختبر طريقة الله في الأمور، ونرى، هل ستنجح أم لا!!
الكثيرون يريدون أن يقتنعوا منطقيًّا بكلّ أبعاد الطريق قبل أن يبدأوا ... هذا مستحيل؛ لأنّ هناك قناعات تتشكّل على الطريق من الخبرة والنعمة والمواجهة والنضج ...
دعنا لا نرفض كلامه لصعوبته، ولكن لنحاول، ونصلّي من أجل أن تنفتح قلوبنا وأذهاننا على ما يريد أن يعلمنا إياه.
وقتها سندرك سرّ حبّ المسيح، والانتماء لملكوته
وسرّ حبّ الآخر بشكل إيجابي وفعّال للغاية ...
هي رحلة نمو ونضج وإدراك ...
لن نصل بين عشية وضحاها،
ولكن علينا من "الآن" أن نطلب بكلّ القلب
أن يملك هو على كلّ القلب ...
أبي،
يا من دعوتني إلى ملء الحياة،
لأصير مكمَّلاً فيك إلى قياسٍ لا أستطيع أن أصل إليه بذاتي